“الإنتحاري” فرنسيس وأمراض الشرق.. والشفاء البعيد

قيل وكتب الكثير عن زيارة البابا فرنسيس الى العراق التي إمتدت لأربعة أيام. تعددت الاوصاف وكثرت التوقعات والتحليلات. طلب موقع 180 بوست من شخصيتين مهتمتين بشؤون الفاتيكان، الأولى ديبلوماسية في روما والثانية دينية في بغداد، تسجيل ملاحظاتهما حول الزيارة البابوية التي تابعتاها عن قرب.

“الزيارة البابوية لبلاد الرافدين تمت بسلام وأمان، وتقويم نتائجها ورصد مفاعيلها عملية مزدوجة تتطلب مزيداً من الوقت والمتابعة”، ملاحظة تمهيدية وأولية سارعت هاتان الشخصيتان اللتان رافقتا زيارة البابا فرنسيس، بكل محطاتها، إلى تسجيلها.

أولاً، شخصية الزائر المميزة الفريدة والاستثنائية: لا تخفي الشخصية الديبلوماسية “أن يدها كانت على قلبها”، وهي تراقب مجريات الزيارة ساعة بساعة ولم تتنفس الصعداء الا لحظة مغادرة الطائرة ـ التي اقلت البابا في طريق عودته الى روما ـ الاجواء العراقية. هنا تسارع تلك الشخصية إلى ابداء اعجابها الشديد بما وصفته “الشجاعة الجسدية والانسانية والفكرية المميزة” التي يتحلى بها البابا فرنسيس الذي لم يأبه بكل “الأخطار الصحية والتهديدات الأمنية والتحذيرات الديبلوماسية”، وتجاوز كل الحواجز وأصر على مواجهة كل هذه الظروف الصعبة وعلى اتمام الزيارة بكل محطاتها.. لا بل ذهب الى حد زيادة اكثر من محطة لم تكن مدرجة في البرنامج الأولي خلال الزيارة الاعدادية (وابرزها اللقاء الاستثنائي مع المرجع الشيعي آية الله علي السيستاني) كما تكشف تلك الشخصية. واشارت تلك الشخصية إلى أنه ما من مسؤول سياسي او ديني غربي يجرؤ على القيام بمثل هذه “المهمة شبه الانتحارية” مُعرّضاً نفسه لشتى انواع الأخطار (كورونا، الارهاب..) وعابراً مسافات طويلة، خصوصاً لشخص في عمر البابا المتقدم (84 سنة) ووضعه الصحي الدقيق (زيارة العراق كانت الأكثر تعباً له من بين 33 زيارة خارجية للبابا، حسب قوله في طائرة العودة الى روما).

ثانياً، وقع الكلمة وأثر الصورة: ترى الشخصية الدينية ان اختيار البابا كلماته وكيفية تصرفه، كان له أبلغ الأثر في نفوس العراقيين بكل أطيافهم، فقول البابا منذ اللحظة الأولى انه يأتي الى العراق “تائباً وحاجاً” وذهابه بكل “تواضع ومودة” الى ملاقاة العراقيين ومد يده اليهم خصوصا الضعفاء منهم والخائفين والمحزونين والمصابين، كاسراً بذلك كل قواعد التباعد الاجتماعي والحواجز البروتوكولية والامنية، كل ذلك جعل تلك “البسمة الدائمة والمطمئنة”، على حد وصف احدهم، “تدخل الى قلوب العراقيين”. كما أن البابا عندما وضع يده على قلبه قائلا لحظة وداع الشعب العراقي “سيبقى العراق في قلبي”، إنما رسم مشهداً وترك أثراً كبيرين عند كل من شاهده وسمعه.

وتضيف تلك الشخصية انه كان يكفي مشاهدة مدى تجاوب الجموع وتأثرها في كل مرة حرص فيها البابا على توجيه تحيات خاصة الى الطوائف غير الكاثوليكية من اشورية او إيزيدية (اظهر تعاطفاً خاصاً مع معاناتهم) او كردية أو استعمال بعض العبارات باللغة العربية: “سلام، سلام، سلام”، “نؤمن بإله واحد”، “الله معكم”.

ثالثاً، طبيب العائلة الكاثوليكية المطمئن: حمل رأس الكنيسة الكاثوليكية حقيبته الطبية الروحية في زيارته التفقدية لرعيته العراقية. عايَن وشخّص الداء: هناك فيروس خبيث سمّاه البابا “فيروس الاحباط”. وفي محاولته التصدي لهذا الفيروس القاتل اخرج البابا من حقيبته، التي كان يحملها بيده، لقاحاً فعالاً فيه وصفة ثلاثية مركبة من “المغفرة والمحبة والرجاء” وذلك للحد من مفاعيل هذا الفيروس الهدّام من “يأس واستسلام وهجرة”. والبابا العارف بواقع الامور وصعوبتها اعترف بان “الطريق الى الشفاء الكامل قد يكون طويلاً، وان مواجهة عواقب الحرب والاضطهاد وهشاشة البنى التحتية الاساسية والنضال من اجل الامن الاقتصادي والاجتماعي والشخصي ليست سهلة”، لذلك وجّه الدعوة الى “الصمود والتشبث بالارض والتجذر بها وعدم التخلي عن الحلم بغد افضل ومستقبل مشرق”. وترى الشخصية الدينية العليمة باوضاع الكنيسة في العراق ومعاناة شعبها ان الأثر النفسي لدى المسيحيين العراقيين كان هو الأبلغ وتمثل بـ”الشعور بالطمأنينة الداخلية وانهم ليسوا منسيين ولا متروكين من جهة، ومن جهة اخرى استعادة بعضُ كرامةٍ منقوصة واعادة اعتبار مفقودة والانتقال من وضعية الاقلية الى المواطنية الكاملة”.

رابعاً، مهندس وباني جسور الأخوة المسيحية – الاسلامية: تلتقي الشخصيتان الديبلوماسية والدينية على القول بان صورة لقاء القمة بين المرجعيتين الكبيرتين الكاثوليكية والشيعية في النجف قد تكون احدى ابرز صور الزيارة البابوية الى العراق لا بل سيكون لها مكان خاص في سجل اهم صور الزيارات الخارجية للبابا فرنسيس الـ 33 منذ وصوله الى الفاتيكان في العام 2013. وتسجل هاتان الشخصيتان “الكثير من نقاط التكامل والصفات المشتركة التي يتحلى بها البابا فرنسيس والمرجع الشيعي السيد اية الله علي السيستاني وفي طليعتها التواضع والحكمة والاعتدال والانفتاح”، اضافة الى الاحترام المتبادل الذي ظهر جليا في لقائهما الاول الذي شهد “ولادة روحية جديدة”. ويبدو ان رأس الكنيسة الكاثوليكية نجح في خطوته الاولى لبناء اساسات جسر التلاقي والحوار والاخوة والانفتاح مع المرجعية الشيعية تمهيداً لاكمال البنيان على غرار ما قام به مع المرجعية السنية المتمثلة بالأزهر الشريف. وما عزّز هذا الانطباع هو ما نقلته الشخصية الديبلوماسية عن أوساط البابا فرنسيس بعد عودته الى روما لجهة اظهار مدى اعجابه بشخص السيستاني والاعراب عن تأثره الشديد باجواء اللقاء معه شكلاً ومضموناً، زماناً ومكاناً.

خامساً، نافذة بابوية مضيئة لظلام العراق:
الصراع القاتل من مفاعيل زيارة البابا السريعة والمباشرة، على حد قول الشخصية الديبلوماسية التي تابعت التغطية الاعلامية العالمية الاستثنائية لهذا الحدث، “تسليط الضوء واظهار الوجه الآخر والايجابي للعراق من خلال نافذة الضوء التي خرقت جدار الظلمة المحيط بهذا البلد منذ عقود من الزمن”، وبالتالي جاءت الزيارة كمساهمة في “تغيير النظرة الخارجية” نحو هذا البلد و”تعزيز اجواء التقارب والتشجيع على التلاقي والمصالحة”. وعلى مدى ايام الزيارة الاربعة “غطى اللون البابوي الابيض على اللونين؛ الاسود بفعل دخان الحرائق واعمال الدمار والخراب؛ والاحمر بفعل سفك دماء الابرياء والشهداء نتيجة اعمال العنف والارهاب”، على حد وصف تلك الشخصية. كما “حلّت زغاريد النساء وهتافات الشباب المُرحبة والفرحة مكان انين الجرحى وعويل الحزانى”. ولاقت تلك الشخصية الديبلوماسية رأي جهات حكومية عراقية مقربة من رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي اعتبرت ان الزيارة “ساهمت في اخراج جوهر الشعب العراقي واصالته الانسانية وارثه الحضاري وغنى قيمه وتراثه الايماني وقيمه العميقة والمتجذرة إلى الضوء، مبرزة قيمة رمزية هذه الارض الابراهيمية مهد الاديان والحضارات”. واشارت الشخصية الديبلوماسية المتابعة لمسار الحوار بين الاديان والتي توليها دوائر الفاتيكان عناية خاصة، الى ان البابا حرص في لقاءاته مع مختلف المراجع العراقية على التشديد على “هوية ابناء الله الواحد” وضرورة التمسك بـ”العيش الاخوي المتناغم” والعمل على بناء المتسقبل على اساس ما يوحّد وليس ما يُفرّق”، مع التأكيد ان “الاختلاف الديني والثقافي والعرقي هو عون ثمين يجب الاستفادة منه وليس عائقا يجب التخلص منه”.

سادساً، خطوات رمزية حكومية عراقية: سجلت الشخصية الدينية سرعة تفاعل الحكومة العراقية وتجاوبها مع الزيارة البابوية، وهي بدأت مع خطوة أولى في اعلان رئيسها مصطفى الكاظمي تسمية يوم 6 أذار/ مارس من كل عام “يوماً وطنياً للتسامح والتعايش”.

والخطوة الثانية تمثلت باغتنام مناسبة هذه الزيارة لاطلاق الدعوة الى مختلف الفرقاء في العراق من قوى سياسية وفعاليات شعبية من أجل المشاركة في “حوار وطني” يكون “مِعبراً لتحقيق تطلعات الشعب العراقي”.

سابعاً، رسائل بابوية عابرة للحدود: في حله وترحاله في بلاد الرافدين، كما في كلماته وعظاته ولقاءاته، حرص البابا على ان يشمل بنظره الدول والشعوب المجاورة ويحمل افكاره الى ابعد من حدود العراق الى المشرق بأكمله مع التفاتة خاصة لكل من “سوريا الحبيبة والجريحة” (كما يطيب للبابا تسميتها) و”لبنان المعذب”. وترى الشخصية الدينية ان المبادىء والقيم التي يدافع عنها راس الكنيسة الكاثوليكية هي واحدة ومشتركة بين دول المنطقة وخصوصا الدول الجارة والقريبة جغرافياً وتكويناً وحضارة لجهة تنوع مجتمعاتها وتعددية سكانها وغنى تاريخها وعمق معاناتها. واذا كانت زيارة البابا الى دمشق “بعيدة” اقله في المدى المنظور، إلا ان هموم الشعب السوري تبقى “قريبة” من قلب رأس الكنيسة الكاثوليكية وفي مقدم اهتماماته. أما بالنسبة الى لبنان، الحاضر أبداً في أولويات الكرسي الرسولي، نظراً إلى مكانة “بلد الأرز” الخاصة والمميزة عند كل الباباوات الذين تعاقبوا على كرسي بطرس، فان قلق الفاتيكان في ذروته من خلال متابعته اليومية لمجريات الامور الداخلية فيه كما هو على تواصل مستمر مع الجهات الخارجية المعنية بمصير هذا البلد.

ثامناً، الزيارة البابوية الى لبنان: أكد البابا فرنسيس، ما سبق واشار اليه موقع 180 بوست قبل حوالي ثلاثة اشهر (راجع: البابا يحث المسؤولين اللبنانيين: ساعدوا أنفسكم يساعدكم أصدقاءكم)، اي امتناعه عن الاكتفاء بزيارة قصيرة وتوقف في محطة لبضع ساعات بمناسبة زيارته للعراق. واِشار البابا فرنسيس، في موقف لافت للإنتباه على متن الطائرة التي أقلته من بغداد إلى روما، الى أن لبنان الذي يمر في “أزمة حياة” يستأهل اكثر من مجرد “فتات” (بالاشارة الى المحطة القصيرة) “أمام حجم المعاناة والعذابات” التي يعيشها شعبه. وعند سؤال الشخصية الديبلوماسية عن امكان قيام البابا بزيارة قريبة الى بيروت تكون كاملة الاوصاف والمراحل، اكتفت بجواب مقتضب مع ابتسامة قائلة:”ان شاء الله.. عندما تتوفر الشروط وتكتمل الظروف”!

بشارة غانم البون-180Post