لبنان… سجلات التنصت على الهاتف تفضح المستور

وثائق أعدها أحمد أصفهاني تغطي الحرب الأهلية التي عُرفت بـ«صيف الدم» عام 1958

صدر عن «دار كتب للنشر» في بيروت قبل أيام كتاب: «لبنان وصيف الدم 1958 – وثائق التنصت على الهاتف» من إعداد وتقديم الزميل أحمد أصفهاني، مع مقدمة للدكتور سليم مجاعص. وهذا الكتاب هو الرابع باللغة العربية الذي يعتمد على أوراق وأرشيف الأمير فريد شهاب (1908 – 1985) المدير العام لمديرية الأمن العام في لبنان منذ 1948 حتى 1958. فقد ترك الأمير فريد بعد وفاته ثروة من الوثائق السرية والخاصة، حافظ عليها نجلاه السيدة يمنى شهاب عسيلي، والأمير حارس فريد شهاب. وبعد مرور عقدين من الزمن على رحيله، صُنفت آلاف الوثائق ورُتبت وأُعدّ قسم منها للنشر في كتاب موسوعي صدر سنة 2005 تحت عنوان: «في خدمة الوطن: مختارات من الوثائق الخاصة للأمير فريد شهاب». وبعد ذلك صدر كتاب: «أنطون سعادة والحزب السوري القومي الاجتماعي في أوراق الأمير فريد شهاب المدير العام للأمن العام اللبناني» (دار كتب للنشر – بيروت 2006)، ثم جاء كتاب: «التنصت على الهاتف في لبنان: أنطون سعادة والحزب السوري القومي الاجتماعي نموذجاً (1947 – 1958)» (دار كتب للنشر 2014).

«لبنان وصيف الدم» هو الثاني في سلسلة كتب تتضمن مختارات كاشفة من سجلات التنصت على الهاتف التي نفذتها المديرية العامة للأمن العام في لبنان على مدى عقود. والكتاب الجديد يغطي الحرب الأهلية التي عُرفت بـ«صيف الدم» سنة 1958، وشهدت تدخلات إقليمية ودولية بلغت ذروتها بنزول القوات الأميركية على الشاطئ اللبناني بعد إطاحة النظام الملكي في العراق، وبروز تهديدات جدية للنظامين الأردني واللبناني المواليين للغرب.

إن وثائق التنصت الموجودة في الأرشيف لا تعطينا أي فكرة عن تاريخ التنصت على الهاتف في لبنان. وأول وثيقة من هذا النوع متوفرة بين أيدينا تعود إلى 24 يوليو (تموز) سنة 1946، والأخيرة إلى 1 سبتمبر (أيلول) سنة 1958، وهو تاريخ التغيير الجذري الذي حدث في قيادة الأمن العام بعد وصول فؤاد شهاب إلى سدة الرئاسة. لكن توجد فراغات كبيرة بين هذين التاريخين، بحيث غابت سنوات كاملة تقريباً مثل 1951 و1952 و1953 و1954 و1957. وليست هناك معلومات مؤكدة توضح سبب هذا النقص، وإن كانت السيدة يمنى، ابنة الأمير فريد، سبق أن أوضحت أن أباها أقدم في مطلع ثمانينات القرن الماضي على إحراق كم هائل من الوثائق؛ من بينها طبعاً سجلات التنصت.

تمتاز المقدمة التي كتبها الدكتور مجاعص باعتمادها بصورة أساسية على وثائق وزارة الخارجية الأميركية التي كُشف عنها منذ مدة. وهي تُظهر لنا جوانب مختلفة من الصراع الإقليمي المخيّم على المنطقة آنذاك. ومع أن القيادات السياسية اللبنانية المتناحرة أدخلت البلد في أتون الحرب الأهلية تحت شعارات براقة (مخادعة في معظم الأحيان)، إلا إن مصير الكيان اللبناني كان يقرَّر في القاهرة وواشنطن. وتُعطينا الوثائق تفاصيل مذهلة عن لقاءات الرئيس المصري جمال عبد الناصر مع السفير الأميركي في القاهرة، والمفاوضات الدائرة بينهما والتي أسفرت لاحقاً عن صفقة «الإجماع» على قائد الجيش فؤاد شهاب رئيساً للبنان.

من ناحية أخرى، يقدّم مُعد الكتاب أحمد أصفهاني عرضاً زمنياً يبدأ من تولي كميل شمعون الرئاسة سنة 1952 بعد إسقاط الرئيس بشارة الخوري، وصولاً إلى قرار الانحياز للمعسكر الغربي وفق مشروع «آيزنهاور». وزاد الطين بلة مساعي شمعون لتعديل الدستور بهدف التمديد لفترة رئاسية ثانية، ثم إقدامه على تزوير الانتخابات النيابية سنة 1957 لضمان الحصول على مجلس نيابي يوافق على التعديل الدستوري. ويوضح المؤلف أن سجلات التنصت كانت تحمل مؤشرات على أن الاستقطاب الحاد على الساحة اللبنانية سيؤدي حكماً إلى الحرب الأهلية، خصوصاً أن القيادات المحلية كانت مرتبطة بمشاريع خارجية متضاربة.

قد لا تكشف سجلات التنصت على الهاتف عن أسرار خطيرة جديدة مغايرة لما بتنا نعرفه عن تلك المرحلة. ومع ذلك، فثمة تفاصيل دقيقة تضع النقاط على الحروف، وتقدم للباحثين والمؤرخين القطع المفقودة التي تمكنهم من الرؤية الواضحة للصورة المتكاملة في تلك الحقبة الحرجة من تاريخ المنطقة، وفي الوقت نفسه تعرّي قيادات سياسية اختبأت لسنوات وراء شعارات مضللة دفع الشعب (وما زال يدفع حتى اليوم) أثماناً باهظة لها!

يقول المؤلف: «سجلات التنصت التي نعتمد عليها تعطينا صورة داخلية فاضحة عمّا كان يُحاك في الغرف المظلمة آنذاك. لم نبدأ فوراً بما حدث في ذلك الصيف، بل عدنا سريعاً إلى أحداث أساسية في سنوات 1955 و1956 و1957 كونها تشكل السياق العام للتطورات التي أوصلت اللبنانيين إلى (صيف الدم)».

لكن يجب ألا نقع في خطأ اعتبار أن أزمات لبنان كلها هي نتاج الصراعات الدولية والإقليمية فقط؛ فثمة مشكلات داخلية ناجمة عن بنية الدولة الطائفية والإقطاعية، تتكرر دورياً مع كل استحقاق انتخابي. وغالباً ما يحدث الدمج بين المحلي والخارجي عندما يستقوي طرف ما بالآخرين من أجل تحقيق الانتصار الداخلي. وهذا ما حدث في فترة الخمسينات بعد أن توضحت خطوط المواجهة بين الدولة اللبنانية ممثلة من جهة في كميل شمعون وسامي الصلح اللذين أيدتهما القوى الغربية و«حلف بغداد»، وفي المقابل معارضة متنوعة المذاهب ومتناقضة الاتجاهات تدعمها القاهرة ودمشق من جهة أخرى.

وفي ظل أجواء التوتر والاستقطاب وغياب الحد الأدنى من التوافق اللبناني الداخلي فيما يتعلق بالعلاقات مع الدول المجاورة والموقف من الأحلاف الأجنبية، باتت كل مسألة محلية موضع شقاق ونزاع بين الحكومة والمعارضة. وقد سعى كل طرف منهما إلى توظيف القضايا الداخلية التي تهمه في المجال الأوسع للصراعات الإقليمية، كما ساهمت تلك الممارسات في زيادة الاحتقان السياسي والأمني، فتراكمت المواضيع الخلافية التي لم يعد من الممكن معالجتها ما دام التحدي والقطيعة والتحريض أصبحت من السمات الأساسية والوحيدة في التعامل بين رجال السياسة. وعندما تصل الأحوال إلى هذا المستوى بالذات، يكون التدخل الخارجي نتيجة حتمية لعجز الحكومة والمعارضة معاً.

وتكشف لنا وثائق التنصت لسنوات 1955 و1956 و1957 كيف أن الأطراف اللبنانية المتناحرة راحت تصعّد لهجتها مع كل حادثة جديدة، حتى ولو كانت أقل من عادية.

عينة من سجلات التنصت

13 مايو 1958:

> الساعة 12:05: قال مصباح سلام لعبد الله اليافي بمنزل العويني: ما بيصير نضل هيك والقيادة بتكون إما هون أو هونيك، صائب قاعد وحده ما بيقدر يدير الحركة وحده، وهوديك يللي راحوا مشوارهم ليش ما بيعطونا خبر لنعرف شو جد معهم؟ يطلعوا منها هالمناورات. يافي: من وين بدنا نروح لعندك؟ الرصاص مشتغل بين الجيش والأهالي على الطريق الجديدة. سلام: بتقدروا تجوا، الجماعة هون كلهم منتظرين وهلق وصل كامل بك الأسعد. وهلق وصل سليم من المطار. يافي: من وين مرقوا؟ سلام: بتجوا على سان سيمون ومنها على الأونيسكو، على كركون الدروز رأساً لهون. يافي: طيب.

> الساعة 14:25: قال عبد الحميد غالب لمحمود رياض في دمشق: اليوم الساعة 2 طلبني محمد علي حمادة من وزارة الخارجية وبلغني الحضور لوزارة الخارجية الساعة 5 لتسلم بلاغ رسمي. سألته هل هذا البلاغ عام أم خاص؟ قال لي عام. وأنا بعتت الخبر لمصر لكن حبيت قول لك حتى تتصل فيهم تلفونياً والبلاغ ما بعرف شو فيه. رياض: كيف الحالة في بيروت؟ غالب: الحالة عدم، والرصاص والانفجارات بكل مكان. رياض: إن شاء الله تنتهي بخير. أنا في المكتب لغاية الساعة 7. غالب: أنا بتصل فيك بهالوقت لحتى قول لك النتيجة.

> الساعة 15:45: قال رفيق نجا لعدنان الحكيم (منزل): شو عندك؟ عدنان: من الساعة 12 لهلق والرصاص بينزل على بيتي من القوميين. رفيق: وعندي كمان عم يقوصوا حوالي البيت. بلغني إنه الكتائب نازلين للسوق يفتحوا البلد. وأنا بعتت ناس يشوفوا إذا صحيح. بدي منك تبعت حدا من عندك. عدنان: نحن عم ندافع بلحمنا. إذا السلاح موجود عند صائب وعم يعطيهم لجماعته شو عم يجينا نحن؟ شبابنا لما علقوا مع القوميين أخذوا 6 – 7 فرودة ولحقوهم. بدي نجدة ما عندنا شي والسلاح كان لازم ينعطى منه قسم كبير لبيت النجاد. عبكره شبابنا علقوا معهم على الناصرة وإجوا العسكرية ضربوا واحد من جماعتنا بالحربة. نجا: قتل شاب عندنا هون على البوابة صار له ساعتين مشلوح ما حدا عم يتطلع فيه وما انعرف مين هو. عدنان: ريمون إده باعت لي خبر إنه بتستقيل الوزارة وبيجي الجنرال ومعه تقي الدين أو هنري فرعون والمعارضة بتسمي اثنين وبيطلب شو رأينا بالحل؟ قلت له نحن والهيئة الوطنية منعطي آخر رأي وما منقبل إلا ما ينزل الرئيس. مش هيك رأيك؟ نجا: ما في شك. عدنان: وهلق بدو يجي عند حسين العويني ويعطيهم هالحل. نجا: طيب. عدنان: وإنت إذا اتصلت بالجماعة قل لهم يبعتوا لنا سلاح. نجا: طيب.

2 يوليو 1958:

> الساعة 18:25: منير فتحة قال لعبد الله آليافي بمنزل حسين العويني: في بلبلة بالمحلة. عبد الله: شو القصة؟ منير: في معين حمود وابن يوسف الحكيم وابن درويش من شان فوزي الحص. عبد الله: يا أبو سعيد ما تحكي هالأشياء على التلفون. بدك تجي لعندي لهون لتقدر تحكيني هالأشياء. منير: راح ناس لعندك. عبد الله: إي طيب.

سيدي الرئيس: إن صائب سلام أقدم على خطف قواد طريق الجديدة أي معين حمود وصلاح درويش والسوري يوسف الحكيم وسجنهم، والقيامة قائمة بهذا السبب في طريق الجديدة. (ملاحظة من الأمن العام).

> الساعة 16:40: أحمد الحاج قال لخالد جارودي في بيت العويني: سيارتي رقمها 28515 «فيات» كانت واقفة قدام مكتبي على البور. سرقوها جماعة النجادة وأخذوها لعند عدنان الحكيم. راجعت صائب سلام وعبد الحميد سلام قالوا ما بيحطوا إيدهم فيها طالما النجادة سرقوها. حكيت عدنان الحكيم قال بدّه 500 ليرة ليتركها، وإذا ما دفعت لهم الليلة راح يحرقوها. شايلين لها نمرتها. لونها طحينة ورمادي. أنا قبلت إدفع لهم 200 ليرة ما كان يقبلوا لأن إلى شريك فيها إسمه موريس زريق يهودي. خالد: هلق بحاكيه لعدنان وبجاوبك. واتصل خالد بعدنان الحكيم فقال له عدنان: يدفع المطلوب منه. خالد: راح يدفع 200 ليرة. عدنان: 500 إلا قرش ما منقبل، وقفل الخط. واتصل خالد بأحمد الحاج وأخبره، فقال أحمد: إذا بده يعنّد راح تكلّفه حياته (…) لعدنان الحكيم الكذاب.

الشرق الأوسط