تكريس سياسة التعطيل في السنوات الماضية في إطار الحياة السياسيّة اللبنانيّة وفي إطار العمل المؤسساتي خصوصاً بعد إتفاق الدوحة (2008)، بات يطرح علامات استفهام كبرى حول مآلاته المستقبليّة وعلى قدرة البلاد على تحمّل المزيد من هذه السياسات «الهوجاء» التي تكاد تطيح، إن لم تكن قد أطاحت فعلاً، بكل مرتكزات الواقع المحلي الذي يمر في أسوأ انهيار ويزداد هشاشة وترهلاً.
لقد مورس التعطيل بشكل منهجي ومنظّم، في الرئاسة الأولى، في تشكيل الحكومات واجتماعاتها، في انعقاد المجلس النيابي، في إجراء الاستحقاقات الدستوريّة (كالانتخابات النيابيّة والبلديّة) في مواعيدها المحددة. وكبّدت هذه السياسة البلاد الأسابيع تلو الأسابيع من المراوحة القاتلة.
ومنطق التعطيل لم يسرِ فقط على عدم الالتزام بالمواعيد القانونيّة للانتخابات، بل حتى في العهود الرئاسيّة الفاعلة، استُخدم كسلاح ضد أخصام العهد أو ضد أطراف فاعلين في السلطة، مثل «بتر» الحكومات (يا له من تعبير «ديمقراطي» وحضاري) بنزع «الميثاقيّة» عنها. بعض الرؤساء السابقين، بدل أن يكونوا «المثل والمثال» كما قالوا في خطاب القسم، فإذا بهم يتحولون إلى عامل تعطيل للحياة السياسيّة بما يناقض قسمهم!
وبعض الرؤساء الآخرين لم يتوانوا عن شلّ جهود الرؤساء المكلفين تأليف الحكومات من خلال مطالبهم المحاصصاتيّة والتعجيزيّة والفئويّة، حتى ولو أدّى ذلك إلى هدر استنزاف عهودهم واستهلاك أشهر طويلة منها في مفاوضات شاقة يفترض بالرئيس أن يكون راعياً لها وليس طرفاً معطلاً فيها.
الفكرة الأساسيّة تتمحور حول فهم مشوّه (وهو على الأرجح مفتعل ومقصود) لسلاح التعطيل والمبالغة في استخدامه بما يتجاوز حتماً روح الدستور والتشريعات والقوانين، وبما يضرب فكرة المشاركة السياسيّة في السلطة والنظام وفق أصول وأنظمة من المفترض أن تُحترم لأن خرقها، بشكل متفرق أم منظم، لا يساعد مطلقاً في انتظام الحياة الوطنيّة والمؤسساتيّة.
المفارقة أنه فقط في لبنان، يُحتسب في جلسات انتخاب رئيس الجمهوريّة عدد الأصوات النيابيّة القادرة على التعطيل بالتوازي مع احتساب عدد الأصوات التي يُفترض أن ينالها هذا المرشح أو ذاك، لأن خيار «تطيير» النصاب القانوني بات يُعتمد كأحد الخيارات التي تنتهجها بعض الكتل البرلمانيّة بما يتجاوز مرة أخرى منطق الدستور وروحيته.
صحيحٌ أنّ بعض «المنظّرين» الذين يملأون الشاشات ويتنقلون بينها بأريحيّة ملفتة، يروجون لمقولة «ديمقراطيّة» خيار «تطيير» النصاب، إلا أنّ بعض هؤلاء يسيئون إلى الفكرة والمبدأ على حد سواء. فهذا الخيار قد يكون مفهوماً (وليس مبرراً) اللجوء إليه في حال جنوح المجلس النيابي، على سبيل المثال، لإقرار تشريعات تضر بالمصلحة العامة وتصب في مصالح بعض الجهات السياسيّة التي قد تسعى لتهريبها، فيكون إفقاد المجلس لنصابه بمثابة إنقاذ للموقف.
ولكن، أن يتحوّل خيار «تطيير» النصاب القانوني في جلسة بأهميّة جلسة انتخاب رئيس جديد للجمهوريّة (وفي لحظة انهيار اقتصادي غير مسبوق) إلى خيار معتمد تنادي به بعض الكتل، فترد كتل أخرى بمثله نكايةً؛ فإن ذلك يعكس استباحة تامة للدستور والقانون والمؤسسات وينذر بمزيد من الانهيارات والانكسارات الوطنيّة.
لم يعد هذا المنطق يستوي لبنانيّاً ولم تعد تكاليفه قابلة للاحتمال، بل هو يتطلب مقاربات جديدة تأخذ بالاعتبار أسس الشراكة الوطنيّة ومقتضياتها وتقطع الطريق على الطروحات التقسيميّة والانتحاريّة التي عادت تطل برأسها على ضوء التعثر الكبير الذي تشهده العمليّة السياسيّة والديمقراطيّة اللبنانيّة الهشة.
آن أوان الإقلاع عن هذه السياسات المريضة رأفة بالبلاد والعباد وتأسيساً للإنقاذ والخروج من النفق المظلم.
رامي الرّيس – نداء الوطن