أن يلجأ البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي الى جوهر الرمزيات الدينية في محاولاته المشهودة المتلاحقة لمساواة المصير السياسي الوطني للمسيحيين بالمصير الديني نفسه فهو أمر يستبطن وجهين من دلالات إيجابية وسلبية لما بلغته أزمة عابرة لكل التجارب المدمرة للبنان في ماضيه وحاضره على أمل ألا تكون قاضية تماماً على مستقبله. ليس الأمر مدعاة لترف ديني أو حتى مبعث سخرية لدى جهلة لا يفقهون دلالات الرمزيات لدى الأديان، حتى لو برر ذلك لبعضهم ممّن لا ينتمون الى عالم العقائد الدينية. بل أن يدعو البطريرك الراعي “النواب المسيحيين” تحديداً وحصراً، بالصفتين التمثيلية والدينية، الى بيت عنيا في الأسبوع المقدّس الكبير لدى المسيحيين “الغربيين” وفي “أربعاء أيوب” عشيّة “خميس الأسرار” و”الجمعة العظيمة” و”سبت النور” و”أحد القيامة”، فالمعنى يثقل بقوة ساحقة لجهة تشابك “اليأس” الكنسي مع “الإيمان بالقيامة” وكلها دلالات تحكم الضعف والمخاوف لدى الكنيسة حيال أبنائها “غير البررة” أمام أزمة المصير الكياني للبنان.
والحال أن مبادرة البطريرك الى ترتيب هذه “الجمعة” النيابية في مكان وتوقيت حافلين برمزية “الصبر والألم والإيمان الخلاصي”، وفق المفردات الدينية المسيحية، ولو أن أحداً لن يعترض على نبل الاتجاه والنيّة والوسيلة، تنطوي واقعياً على مغامرة ليست بقليلة في ما ترتّبه من اجتهادات لدى هواة إلقاء تبعات تعطيل الحل وانتخاب رئيس الجمهورية على المسيحيين عموماً والموارنة خصوصاً وهو اتجاه آخذ في التعاظم وسيتعاظم تباعاً في ظل التراجع المتدرّج لرهانات فريق الممانعة في إيصال مرشّحه الى بعبدا.
ليس ثمة من يمكنه التنكّر لتاريخ طويل من الانقسامات المسيحية والصراعات التي غالباً ما شكلت دوافع أساسية من واقعات الأزمات التي تواكب تاريخياً الاستحقاقات الرئاسية في لبنان. ولكن هذا المعطى التاريخي المثبت يواكبه واقع أشدّ رسوخاً في التجربة الحالية لا ينزع الطابع المسيحي عن حيّز أساسي من الأزمة لكنه يجعله الأقل والأخف نسبة بين المسببات الأخرى الجوهرية الممسوكة بأيدي الشركاء غير المسيحيين النافذين والمهيمنين على واقع لبنان منذ بداية العهد الآفل السابق وامتداداً الى الأشهر الأخيرة من الفراغ الرئاسي. بأبعاد طائفية أو بارتباطات إقليمية أو باستقتال لإبقاء السيطرة والاستئثار بأيديهم أو للمضيّ في استباحة الاستحقاق اللبناني في سوق الصفقات الخارجية والمقايضة على مكاسبهم، “يصادف” أن هؤلاء النشامى لا يخفون “نيّاتهم الحسنة” في المضيّ في إجهاض مراس الأصول الدستورية أو السعي المكشوف لتوظيف تدخلات خارجية غربية فاقعة لدول كانوا يعتدّون بمعاداتها من أجل فرض مرشحهم. وكذلك حديثاً عبر العودة السافرة الى إقحام “الفيتو” المذهبي الطائفي المغلف بشعارات سياسية زائفة لمنع الاستحقاق من أن يغدو تعدّدياً ديموقراطياً كما تفترض عملية إنقاذ لبنان والدفع به نحو اللحاق مجدّداً بركاب الدول الطبيعية لا أكثر.
لقد سقطت سلفاً أسطورة الاختباء وراء البعد الطائفي للأزمة الكيانية في لبنان حين انكشف هدف المحور التعطيلي في جعل الواقع الدستوري والسلطوي، بعد الانهيار، الفرصة الأخيرة لاستباحة لا هوادة فيها لما يعتبره فرصته النهائية في الإجهاز على لبنان الأصول والنظام والدستور. ليس ثمة أبعاد أخرى ينبغي البحث عنها في الأزمة، سواء بتحويل النواب الى “أهل تقوى” للحظات عابرة أو ببقائهم في مواقع الانتظار لقيامة لا ندري إن كانت ستأتي!
نبيل بومنصف – النهار