هل تنتزع واشنطن المبادرة من باريس؟

فشلت التسوية الرئاسية التي سوّقت لها باريس على مدى عدة أسابيع، والتي تقضي بانتخاب سليمان فرنجية رئيساً للجمهورية، في مقابل تكليف القاضي والسفير نواف سلام تشكيل حكومة العهد الأولى وربما سائر الحكومات للسنوات الست المقبلة. لم تستطع باريس إقناع الرياض بأن فرنجية رئيساً للجمهورية هو غير فرنجية الشخصية الخارجة من صلب ما يُسمّى “محور المقاومة” الذي تقوده إيران إقليمياً، و”حزب الله” محلياً. كذلك فشلت باريس في إقناع الأطراف اللبنانيين بأن التسوية المعروضة هي تسوية متوازنة ترضي جبهتين كبيرتين في البلد المنقسم عمودياً. وأخيراً فشلت باريس في إقناع السواد الأعظم من القوى المسيحية المتصلة بعمق الضمير المسيحي بأن فرنجية يمثل المزاج المسيحي. وبالتالي فإن الاستحقاق الرئاسي عاد الى المربع الأول. وقد أكد هذا الواقع مضمون كلام الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله قبل ثلاثة أيام عندما ركز على المواضيع الاقتصادية، كنظرية التوجّه شرقاً، واجتذاب الرساميل والاستثمارات الصينية الى لبنان، داعياً الى حوار اقتصادي بعدما فشلت الدعوة الى حوار حول الاستحقاق الرئاسي، وخصوصاً أنه كان عبارة عن حوار حول شخص مرشح “حزب الله” دون سواه.

إذن كل المحاولات التي قام بها “حزب الله” والرئيس نبيه بري من جهة، وخلية الإليزيه من جهة أخرى وصلت الى أفق مسدود، بحيث بات لزاماً على الأطراف المعنيّة بالملف اللبناني خارجياً أن تعيد النظر في ترتيب مقاربتها للملف، وأولها إتمام الاستحقاق الرئاسي الذي يمثل مع تشكيل حكومة جديدة بمواصفات مختلفة عن المواصفات المعتمدة راهناً الوسيلة الوحيدة لمباشرة عملية إنقاذ سياسي واقتصادي للبلاد. وحتى الآن كانت باريس تنوب في حركتها عن الاتحاد الأوروبي المنشغل بحرب أوكرانيا، والتحديات الجيوستراتيجية الناجمة عنها.كما كانت تنوب في مكان ما عن واشنطن التي تركت لها “قيادة العربة” من المقعد الأمامي، واكتفت بالمراقبة من الخلف، والتعاطي بالحدّ الأدنى الذي تخوّله إياها وضعيتها كقوة دولية عظمى لا يمكن للملف اللبناني أن يتحرك من دون تدخلها. وقد لمسنا اهتمامها وفق سياسة التعامل “على القطعة” على سبيل المثال في ملف ترسيم الحدود الذي انخرطت فيه بقوة وكثافة حتى إتمامه.

في ما يتعلق بالملف الرئاسي اللبناني، يمكن القول إنه ليس من بين أولويات واشنطن، مع أنها لا تحبّذ سيطرة “حزب الله” على رئاسة الجمهورية.لكنها بلسان سفيرتها في لبنان دوروثي شيا تعبّر عن موقف رسمي بلغة خشبية، رغبة منها في عدم التوغل في تعقيدات محلية غير مهمّة بالنسبة إليها. من هنا نقل عنها في لقاء مع رئيس مجلس النواب نبيه بري أن الولايات المتحدة ستتعامل مع أي رئيس جمهورية. وقد جرى تضخيم الموقف وتحميله مبالغات مثل أن يفسر على أنه موافقة أميركية على سليمان فرنجية رئيساً للجمهورية.

الآن تحضر الى لبنان مساعدة وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى السيدة باربارا ليف حاملة موقفاً أميركياً لا نخاله يصبّ في “طاحونة” الموقف الفرنسي الذي يستقتل من أجل إيصال فرنحية الى سدّة الرئاسة. وتقديرنا أن الأمور أكثر تعقيداً من ذلك ولا سيما أن تسوية توصل فرنجية الى قصر بعبدا ستكون بمثابة تسليم البلاد لـ”حزب الله” من دون مقابل جدّي. والأهم أن الرفض المسيحي لا يزال قوياً، وخصوصاً أن القوى المتناحرة في ما بينها متفقة على رفض مرشح “الثنائي الشيعي”. إذن قد يكون مجيء باربارا ليف الى لبنان هدفه فتح مسار جديد مختلف عن الذي ساد في المرحلة الأولى، وانتهى ببلبلة سبّبتها مواقف باريس وحساباتها الرئاسية. فهل تنتزع واشنطن المبادرة؟

علي حمادة – النهار