التوقيت يعود إلى رشده: ربح المسيحيون والشيعة وخسر ميقاتي

أيام قليلة جداً كانت كافية لفرز البلاد طائفياً على خلفية قرار عشوائي اتخذه رأسا السلطتين التشريعية والتنفيذية امام كاميرات المصورين. لم يصمد القرار كثيراً ليعود العمل بالتوقيت الصيفي الى مساره الطبيعي، بعدما استعادت طاولة مجلس الوزراء دورها وصلاحياتها في اتخاذ القرار، فأعادت الى المؤسسة الدستورية هيبتها بعد ايام من التنكيل والهتك.

أياً تكن الاسباب التي حدت برئيس مجلس النواب نبيه بري الى دفع رئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي لاتخاذ قرار الابقاء على التوقيت الشتوي من دون أخذ تداعياته في الاعتبار، أو التشاور في شأنه مع الاجهزة المعنية، فإن تلك الاسباب سقطت بسقوط القرار في مجلس الوزراء امس، مسقطة معها هيبة سلطة تجاوزت المؤسسات، وعاكسة دلالات سلبية حيال آلية الحكم في لبنان والذهنية الاقطاعية المنتهَجة.

يبرع الرئيس بري في استقطاب الاضواء الى حيث يريد، كما في توجيه الرسائل الى من يريد، مختاراً التوقيت الذي يحقق اهدافه، والادوات الكفيلة بذلك، كما فعل اخيراً في استدراجه رئيس الحكومة الى اتخاذ قرار من دون العودة الى مجلس الوزراء، ومن دون اقتناع منه بصوابية ذلك القرار، كما ظهر في التسجيل المسرّب من لقاء عين التينة، مذعناً في ذلك لأمر اليوم الصادر… عن رئيس المجلس.

هل أراد بري من التسجيل اظهار قوته في استدراج الآخرين الى ملعبه، أو ان يقرن القول بانه الحاكم الأوحد بقوة الدستور، بالفعل، فيبيّن ان الكلمة الفصل والاخيرة عنده، على طريقة “الامر لي”، طالما ان موقع رئاسة مجلس النواب هو الموقع الوحيد اليوم الذي يتمتع بكامل الشرعية مقارنة مع حكومة تصريف اعمال وشغور في موقع الرئاسة الاولى، أو أراد ان يوجه الى من يراهن على تراجع دوره ونفوذه عكس ذلك، ولا سيما في ملف الاستحقاق الرئاسي، او هو رغب في اثارة قضية من العدم على نحو يشيح النظر عن استحقاقات كبرى تبدأ بالتحذيرات العالية النبرة لصندوق النقد الدولي واتهاماته للسلطة السياسية بتعطيل المسار الاصلاحي عبر تعطيل اقرار القوانين المطلوبة، ولا تنتهي بفضيحة صفقة التراضي في مطار رفيق الحريري الدولي، أو ما تكشّف عن صفقة ادخال سيارات على الرسم السابق للدولار الجمركي 8000 ليرة؟

في مقابل الاسئلة المطروحة حيال الحيثيات التي دفعت بري لفعل ما فعله، اسئلة مماثلة تُطرح حول موقف رئيس الحكومة والحيثيات التي دفعته الى اصدار القرار قبل العودة الى مجلس الوزراء، وهو المدرك أن قرارا حكوميا لا ينقضه إلا قرار حكومي مماثل، ولا يمكن لتوقيع رئيس الحكومة ان يحل محل الحكومة. هل اراد ميقاتي مسايرة بري في مسألة التوقيت رغم إشكاليتها، ومعرفته بأضرارها، وهو الخارج من قطاع الاتصالات والتكنولوجيا ويدرك محاذير خروج لبنان عن التوقيت العالمي، أو هو أراد التسليم بالسير برغبة بري والقبول باستدراجه له، نظراً الى التحالف القوي بينهما، وإن كان ذلك على حساب صلاحيات رئيس الحكومة، الامر الذي تطرّق اليه في شكل غير مباشر في كلمته عقب جلسة مجلس الوزراء، بحيث تحدث عن السنّة “ودورهم ومسؤوليتهم الوطنية في حماية السلم الاهلي”، وهل سعى ميقاتي بكلامه هذا الى حرف النظر عن الضرر الذي أصابه في صلاحياته وموقعه ليكبّر حجر المسألة، فيضعها في خانة استهداف السلم الاهلي؟

قد يكون ميقاتي نجح في اعطاء الموضوع بُعداً طائفياً، بعدما ابرزت المواقف المختلفة الصادرة في الايام القليلة الماضية عن قيادات سياسية وروحية حجم الاستغلال الطائفي الذي فرز اللبنانيين طائفياً في شكل ساخر وانما مقزز، مستعيدين صوراً من ماضي الحرب الاهلية.
وقد يكون بري نجح في خلق اشكالية حول التوقيتين الصيفي والشتوي، مبرزاً قدرته على ادارة البلاد وتركيب “دَينة الجرّة” حيث يريد، لكن استعادة مجلس الوزراء زمام القرار وتصويبه اعاد وضع الامور في نصابها وأبرز توازن القوى في اختبار قوة، خرج منها الشارع المسيحي قوياً، قادراً على فرض الصواب وتعطيل قرارات عشوائية لا تقيم للنتائج الاقتصادية وزناً.

لكن الخاسر الاكبر في المشهد كان رئيس الحكومة الذي استُدرج بداية الى القرار، وقد لاقاه فيه رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط عندما التزم وزيره في الحكومة، وزيرالتربية، القرار قبل ان يعدِل عنه بعد ساعات.

لم يلقَ ميقاتي ملاذاً إلا نادي رؤساء الحكومات السابقين لاحتضانه وتبرير تراجعه، فكان المخرج لتسرّعه في اصدار القرار المعطوف على الغاء جلسة مجلس الوزراء، العودة الى عقد الجلسة وانما ببند واحد هو بند التوقيت، علماً ان ثمة مآخذ في الوسط السنّي على نصيحة النادي بدعوة ميقاتي الى التراجع عن قراره وليس حضّه على الثبات على موقفه!

فعل التوقيت فعله في شد العصب المذهبي، واتاح لرئيس “التيار الوطني الحر” استعادة الزخم من الحيثية المذهبية بعد اشهر من الانكفاء.

ورغم ان اوساط عين التينة تنفي التسريب، إلا ان التسريب حصل وأدت مفاعيله الى اظهارحجم الانكشاف السياسي في البلاد، بحيث إن ساعة بالزائد او ساعة بالناقص كادت تعيد عقارب الوقت الى ساعة الحرب الاهلية.

 

سابين عويس – النهار