أيّ خلفيات وراء فشل اجتماع باريس ومن وراءه؟

على شحّ المعلومات التي وصلت الى بيروت عن الاجتماع الخماسي للدول التي تداعت للبحث في الملف اللبناني، الولايات المتحدة، وفرنسا والسعودية وقطر ومصر، فإن الترددات لم تكن إيجابية خصوصاً أن الدول الخمس عجزت عن إصدار بيان مشترك يشرح للبنانيين ما دار في نقاشات الساعات الأربع الطويلة في باريس.

الأكيد أن الأزمة اللبنانية بكل تشعباتها كانت على طاولة المجتمعين، بحيث إن المشاركين تداولوا بتفاصيل داخلية، كان يُفترض أن تكون مادة حوار ونقاش لبناني داخلي. فالدول المشاركة سألت واستعرضت مخاطر الفراغ الرئاسي والانهيار الاقتصادي باهتمام وحرص فاق الاهتمام والحرص لدى القوى اللبنانية المعنيّة بالأزمة. إلا أن العجز عن الخروج بورقة موحدة نتج عن التباين الواضح في مقاربة كل دولة للأزمة، بحيث طُرحت أفكار ومقترحات، لكنّها لم تلق إجماعاً يؤسّس لها ويدفعها نحو تكوين ورقة موحدة تشكل خريطة طريق لحلّ الأزمة اللبنانية.

وحدها المملكة العربية السعودية التي قامت بهذا الدور، من خلال ورقة معدّة سلفاً لم يتم تبنّيها نظراً الى التباينات في مقاربة مواصفات الرئيس المقبل من زاوية أي سياسة خارجية ستعكسها شخصيته، وانعكاسها على مصالح الدول المعنيّة المشاركة في الاجتماع.

الأكيد وفق المعلومات التي توافرت عن الاجتماع أن مسوّدة بيان كانت وُضعت وتؤكد مجموعة من المسلّمات:

الإعراب عن القلق الشديد حيال خطورة استمرار الشغور الرئاسي والتحذير من مخاطره.

دعوة القادة اللبنانيين الى العمل الملحّ والفوري على تلبية احتياجات الشعب اللبناني والقيام بكل ما هو مطلوب من أجل استعادة الاستقرار ومواجهة التحديات المفروضة.

دعوة البرلمان اللبناني الى استئناف عقد جلسة انتخاب للقيام بواجبه الدستوري وانتخاب رئيس والتمهيد لتشكيل حكومة جديدة يتمتع أعضاؤها بالكفاءة والنزاهة.

التأكيد على أن اللبنانيين يستحقون رئيساً نزيهاً وقادراً على جمع التوافق حوله من أجل استعادة ثقة المجتمع العربي والدولي وتحصين البلاد من المخاطر المحدقة به.

لكن البيان لم يصدر نظراً الى عدم توصّل المجتمعين الى توافق على مجموعة من النقاط الأساسية: اسم الرئيس المقبل أو على الأقل مواصفاته، المهلة الزمنية لإجراء الانتخابات، آليات الضغط الواجب على المجتمع الدولي فرضها لدفع القوى المحلية الى إنجاز الاستحقاق الرئاسي، وفي مقدمها مسألة العقوبات التي كان التباين واضحاً في جدوى اعتمادها أو عدمه، الربط بين انتخاب رئيس واختيار رئيس الحكومة، وما إن كان يفترض أن يكون الحل عبر رزمة متكاملة تتضمّن الرئاسة ورئاسة الحكومة وحاكمية المصرف المركزي أم إبقاء الأولوية لانتخاب رئيس.

لم ينجح المجتمعون في التوصل الى قواسم مشتركة حيال هذه النقاط، لكن ما أمكن رصده يكمن في نقطتين لافتتين: الأولى غياب ذكر “حزب الله” مباشرة مع سعي بعض المشاركين الى تفاديه وتفادي الإشارة الى السلاح، في محاولة لتجنّب الدخول في نقاش حول نقطة خلافية يعتمد لبنان سياسة ربط نزاع في شأنها، الأمر الذي لم يرق المملكة التي لا تخفي مسؤولية الحزب في الأزمة اللبنانية. أما النقطة اللافتة الثانية فتمثلت بما يشبه الإجماع على اعتبار أن المعرقل الأساسي لمسار انتخاب الرئيس هو رئيس “التيار الوطني الحر” النائب جبران باسيل. وكانت دعوات الى ضرورة تحذيره من مغبة الاستمرار في تعطيل المسار الدستوري.

يُستنتج من أجواء النقاشات أنها، رغم استفاضتها بالملفات الداخلية اللبنانية، ورغم إدراك ممثلي الدول الخمس لحجم الأخطار الداهمة، لم تغيّر في المواقف المسبقة لهذه الدول، أقله أن هؤلاء لم يملكوا تكليفاً بالخروج عن سقوف تلك المواقف. فالاميركيون لم يغيروا من نظرتهم الى لبنان. يؤكدون استمرار الدعم المالي للجيش وللاستقرار، يتنصّلون من مسؤوليتهم في تأخير إمداد لبنان بالغاز المصري ويعتبرون أن التأخير ناجم عن تخلف الحكومة اللبنانية عن الإيفاء بالتزاماتها تجاه البنك الدولي. يضعون الخطوط الحمر على مواصفات الرئيس، التي تنطبق بالنسبة إليهم على قائد الجيش، من دون أن يسمّوه علناً، يدعون الدول التي تساند باسيل وتدعمه، في إشارة غير مباشرة الى قطر، الى توجيه رسائل واضحة إليه مفادها أن استمراره بالتعطيل ستكون له عواقب وخيمة، وربما أهم الرسائل الأميركية تكمن في مقاربتها لملف حاكم المصرف المركزي الذي يجب أن يغادر عند انتهاء ولايته.

أما بالنسبة الى الإجراءات العقابية فلا يزال الأميركيون يرون فيها جدوى لدفع القوى الى مراجعة مسارها التعطيلي.

لا يوافق المصريون على أن العقوبات ناجعة بل إنها تزيد الوضع تأزماً والمثال باسيل، من هنا يعتقد الاميركيون أن على كل دولة أن تجد الوسائل الناجعة للضغط.

تتمسك السعودية بمواقفها السابقة كما وردت في البيانات الرسمية المشتركة مع واشنطن لوزراء الخارجية العرب، مع التشديد على ضرورة وجود ورقة محددة تلزم لبنان ويمكن محاسبته على أساسها، وعلى ضرورة صدور مواقف موحدة ومحددة من أجل إيجاد السبل الضاغطة التي تلزم اللبنانيين بالتنفيذ وإلا فاللجوء الى الإجراءات العقابية.

لا تعارض قطر هذا التوجّه، فيما ترى مصر أن العقوبات لم تعط نتائجها. وأي دخول في تسمية رئيس يجب أن يأخذ في الاعتبار أن تكون لديه قاعدة شعبية أو صحة تمثيل لئلا يضعف أمام الضغوط. وفي رأيها، إن الفراغ الرئاسي هو مصدر الأزمات واستمراره سيفاقمها ويهدّد مؤسسات الدولة.

ويلتقى الفرنسيون مع هذا التوجّس، لأن استمرار الفراغ ستكون له تداعيات سلبية وسيعزز دور “حزب الله”.

يخشى المشاركون أن يؤدي استمرار تقديم مرشحين عاجزين عن تأمين الأصوات المرجحة لفوزهم الى الوصول الى الانفجار، خصوصاً أن اللاعبين الكبار يؤمنون بأنه يجب الانتظار قبيل حصول الانفجار قبل الإعلان عن اسم المرشح القادر على تفاديه.

ثمة من يستعجل إنجاز الاستحقاق الرئاسي قبل انتهاء ولاية حاكم المصرف المركزي، خوفاً من أن ينعكس الفراغ ايضاً على الوضع النقدي في البلاد.

لم يحظ اقتراح وضع رزمة تربط بين الرئاستين الأولى والثالثة بأي حظوظ، وإن كان جرى نقاش في الأسماء المرشحة لرئاسة الحكومة على نحو يسهم في إرساء مناخ من الثقة. لكن الاقتراح سقط، كما اقتراح تحديد مهل أو مواقف تلزم الدول المعنية خوفاً من أن تعجز عن تطبيقها.
في الخلاصة، توافق وحيد على ضرورة تكثيف الاتصالات مع اللاعبين اللبنانيين في الأسابيع المقبلة، من خلال جولات يقوم بها سفراء الدول الخمس المشاركة لإطلاعهم على نتائج الاجتماع.

 

سابين عويس – النهار