رحل آخر عمالقة “الشيعية اللبنانية”

برحيل الرئيس حسين الحسيني تُطوى صفحة مشرقة من تاريخ “الشيعية اللبنانية” وليس “الشيعية السياسية” كما هي اليوم. وعندما نتحدث عن حسين الحسيني اللبناني أولا وقبل أي شيء آخر، فإننا نرسم صورة رجل خارج من بيئة تقليدية حداثوية ضاربة بجذورها التاريخية والمعنوية، ومع ذلك ما كان حسين الحسيني عالقا في فخ الماضي كما علق كثيرون غيره. لقد مثّل رئيس مجلس النواب السابق منذ البدايات نهجاً اصلاحياً ونهضوياً في الطائفة الشيعية التي كانت مهضومة الحقوق ومهمشة، لكنه، وهنا الأهم، كان المراهن خلف الامام موسى الصدر والى جانبه على الوطنية اللبنانية كإطار نهائي لنهضة الطائفة ذات البُعد اللبناني الخالص، من دون اغفال القضايا العربية المحقّة كالقضية الفلسطينية. ومن هنا لم يكن داعية عنف، فقد رفضه وفضّل التنحي بعيدا عن لعبة الدم التي كان يجري التحضير لها. عنف اخذ الطائفة الى منزلقات المواجهة الاهلية التي ازهقت الأرواح بالمئات خلال مواجهات القوى الاقليمية بواسطة الدماء الشيعية.

برحيل حسين الحسيني يخسر لبنان مشرّعا كبيرا وأحد آباء اتفاق الطائف الذي انهى حربا دامت سبعة عشر عاما، وشكّل نقطة تقاطع الحد الأدنى بين اللبنانيين اثر الحرب المدمرة بين 1975 و1990. ومثّل في ما بعد الإطاحة برئاسته للمجلس النيابي النهج الحكيم في مقاربة الشأن العام، كما انه ومع الإمام محمد مهدي شمس الدين شكّل الثنائي الذي كان يعتبر ان الطائفة يجب ان تكون حدودها حدود الوطن، وان يكون مشروعها وطنيا لبنانيا، لا ان تكون أسيرة مشروع خارجي في قلب الوطن او غارقة في خصام اهلي دائم.

راهن الحسيني على الحوار، والتواصل، ورفض العنف. كما راهن على القراءة المنطقية والمتوازنة للنص الدستوري. لم يكن يقبل ان ينصّب نفسه مفسرا لغموض النص الدستوري إلا بحدود ضيقة لانه وبالرغم من احتفاظه طوال حياته بمحاضر الطائف ورفضه نشرها، كان مطلعاً على نيات المشرعين الذين عملوا تحت ادارته في فريق “العتّالة” فما رغب في ان يظهر بمظهر من يفرض قراءته دون سواه. كان هذا نوعاً من التواضع السياسي والعلمي والثقافي من رجل شكّل على الدوام نقطة جذب للمشترعين، والمثقفين، والادباء، ورجال المجتمع المدني.

إن إرث الرئيس حسين الحسيني كبير ومتنوع. لكننا نتوقف اليوم عند ارثه اللبناني. فلبنان بأمسّ الحاجة الى إحياء المشروع الشيعي اللبناني كنقيض لمشروع “الشيعية السياسية” الحالية التي، ويا للأسف، وضعت مسدسا على “طاولة” الحياة المشتركة مع بقية مكونات الوطن. فما معنى الحياة المشتركة والعيش الواحد في ظل هذا القهر المتمادي الذي يعيشه معظم اللبنانيين بفعل غلوّ فريق بعينه، واستسهاله استخدام العنف الى اقصى الحدود بهدف فرض خيارات وطنية بالاكراه.

حبذا لو ان “الثنائي الشيعي”، ولا سيما “حزب الله”، ينهل من مسيرة حسين الحسيني، الذي اختار لبنان أولا، ولذلك حوصر في ما بعد وهمّش. ومع ذلك نعتقد ان خياره كان الاسلم للبنان وللطائفة الشيعية على حد سواء لأنه الخيار الذي وحده يحمي لبنان في النهاية. آثر الرئيس الراحل الصمت طويلا، لكن صمته كان صارخا بوصاياه المستخلصة من بين كلماته المنتقاة بعناية ودقة فائقتين. ولذلك سيبقى حسين الحسيني آخر عمالقة “الشيعية اللبنانية” بعد غياب الإمامين موسى الصدر ومحمد مهدي شمس الدين، وشمساً من بين تلك الشموس التي لا بد ان تعود اليهم الطائفة ولو بعد حين.

 

علي حمادة – النهار