الرئاسة.. الداخل غير موجود والخارج غير مستعجل

يشبهُ المشهد اللبناني في تذرّره مشهد البلدان الخارجة من حربٍ لتوّها أو تلك التي تعيش حالة هجينة بين الحرب والسلم فلا هي بالحرب تماماً ولا هي بالسلم تماماً، لكأنّ مفاعيل الانهيار اللبناني أشبه بمفاعيل الحرب، حيث الدولة تتحلّل وتتعطّل وظائفها، وحيث المجتمع ينفكّ عن الدولة وتسلُك شرائحه وطبقاته مسارات خاصة كلٌّ بحسب مصالحه ونفوذه.

والحال فإنّ التذرّر لا يطال المشهد السياسي وحسب، وقد انتقلت الشقاقات والانشقاقات إلى داخل الصفّ الواحد، بل يطال أيضاً المشهد الاجتماعي والاقتصادي برمّته من المدارس والجامعات إلى المستشفيات، علاوة على المصارف التي باتت تشكّل نموذجاً فريداً في العالم من حيث قدرتها على تدوير وظائفها والتحايل على إفلاسها، وهذا فضلاً عن شلل الإدارة العامة والقضاء وتفاقم الصعوبات التي تواجهها الأسلاك العسكرية والأمنيّة.

 

مأساويّة التأقلم مع الأزمات

إذاً فقد بلغت مفاعيل الانهيار أوجه الحياة كلّها وسط تقاطع ديناميّتين دراماتيكيّتين للتعاطي مع الأزمة. فمن جهة تواصل المنظومة السياسيّة داخل السلطة وخارجها سياساتها وصراعاتها التقليدية بعدما نجحت في التنصّل من مسؤوليتها عن الأزمة، ولا سيّما من خلال الانتخابات النيابية الأخيرة، ومن جهة ثانية يأخذ المجتمع في التأقلم مع الأزمة بحكم المصلحة أو الضرورة، مع العلم أنّ هذا التأقلم لا يأخذ شكلاً واحداً بين طبقات المجتمع، إذ إنّ تأقلم أصحاب النفوذ يأخذ شكل التواطؤ مع السلطة ومصرف لبنان والمصارف على الإفادة من الأزمة، وأمّا تأقلم الناس “العاديين” فيأخذ أشكالاً مأساوية وكأنّهم يسلخون جلدهم ويأكلون من لحمهم.

ما قبل الدولة

في المحصّلة يبدو الوضع في لبنان وكأنّه لم يبقَ من الدولة اللبنانية سوى جغرافيّتها التي لولاها لجاز القول إنّ لبنان عاد إلى مرحلة ما قبل الدولة مع سقوط مفهوم القانون والحقّ وغياب مؤسّسات الحكم والإدارة بعدما أوغلت في العجز عن أداء وظائفها، وما بقيَ فاعلاً منها يساهم في تعميق الانهيار لا في وقفه أو الحدّ من اندفاعاته.

وسط مشهد سوريالي ومأساوي كهذا يغدو البحث عن مخارج وحلول للأزمة سوريالياً أيضاً إن هو لم يأخذ بواقع التذرّر والتفكّك والانحلال الذي يعيشه لبنان بدولته ومجتمعه كما لو أنّه خارج من الحرب الأهلية الآن أو كأنّه في حالة بين السلم والحرب، وبالتالي فإنّ أيّ حلّ للأزمة لا يمكن أن يكون حلّاً عاديّاً، أي بأدوات داخلية بحتة ومن داخل النظام السياسي، بل يجب أن يكون حلّاً استثنائياً يشبه الحلّ الذي أوقف الحرب من خلال “اتفاق الطائف” بكلّ سياقاته الداخلية والإقليمية والدولية.

 

عهدا فرنجيّة وعون

هذا يحيلنا إلى محاولة حزب الله الإيحاء بأنّ الحلّ للأزمة إمّا أن يكون داخلياً أو لا يكون، وهي محاولة تجري بالتزامن مع ضغط سياسي وإعلامي متصاعد من قبل “الثنائي الشيعي” لترجمة دعوة الرئيس نبيه بري إلى “حوار داخلي” يكون مدخلاً إلى الاتفاق على انتخاب رئيس جديد للجمهورية. والواقع أنّ المشكلة ليست في الحوار بحدّ ذاته، وإنّما في انتفاء شروطه باعتبار أنّ القوى المشاركة فيه عاجزة عن إيجاد حلّ للأزمة التي لا يختصرُها الفراغ الرئاسي، بل إنّ هذا الفراغ هو أحد نتائجها ومظاهرها، لكنّ الأهمّ أنّ انتخاب رئيس بـ”إرادة داخلية”، فضلاً عن أنّه غير ممكن، فهو لا يوفّر غطاءً سياسياً واقتصادياً كافياً للرئيس يجعل انتخابه مدخلاً إلى معالجات سريعة للأزمة.

يمكن في هذا السياق استعادة تجربتَيْ انتخاب الرئيسين سليمان فرنجية في عام 1970 والرئيس ميشال عون في عام 2016 باعتبار أنّ انتخاب كلّ منهما طغى فيه البعد الداخلي على البعد الخارجي في لحظة إقليمية ودولية معقّدة. لكن في المقابل لم يحُل انتخاب كلّ من فرنجية وعون بـ “إرادة داخلية” دون حصول كارثتين في ولايتيهما، إذ انتهى عهد الأوّل بحرب أهلية، وأمّا الثاني فما كاد عهده ينتصف حتّى وقع الانهيار وما يزال يتفاقم إلى الآن. وبالتالي فإنّ ضعف الغطاء الخارجي لهذين العهدين في توقيت إقليمي ودولي متوتّر وذي انعكاسات داخلية أكيدة كان سبباً رئيسياً في انتهائهما إلى كوارث محقّقة، فكيف الحال مع الانتخابات الرئاسية الحالية التي تحصل في لحظة احتقان إقليمي ودولي معطوف على شلل شبه تامّ للدولة وانهيار اقتصادي يضع البلد كلّ يوم أمام مخاطر اجتماعية وأمنيّة حقيقية.

 

أيّ حوار؟

لذلك لا تعدو دعوة الحزب إلى التوافق الداخلي على انتخاب رئيس للجمهورية سوى ذرّ للرماد في العيون، في وقت يعلم الحزب قبل سواه أنّ أيّ رئيس لا يكون انتخابه نتيجة تسوية إقليمية ودولية لن يتمكّن من الحكم لأنّ الأزمة ستتفاقم أكثر، إلّا إذا كان الحزب مستعدّاً لتكرار تجربة الرئيس عون الذي كان اصطفافه الواضح إلى جانبه سبباً رئيسياً في انسداد القنوات العربية والدولية التي كان يمكن أن تكبح جماح الانهيار. وهذا محطّ شكّ كبير لأنّ الحزب غير قادر على الهروب أكثر إلى الأمام وقد بدأ الانهيار يهدّد مكتسباته السياسيّة والاجتماعية، فضلاً عن أنّه يريد البدء بتحصيل الأثمان السياسيّة والاقتصادية لاتفاق ترسيم الحدود مع إسرائيل، وهو ما لن يحصل في ظلّ حالة من اللااستقرار السياسي والأمني والاقتصادي.

من زاوية أخرى يبدو الحزب بإصراره على الحوار الداخلي لانتخاب رئيس جديد كأنّما يؤكّد أنّه هو لوحده “الداخل” وأنّه يريد حواراً مع نفسه بعدما استطاع منذ عام 2005 بشتّى الوسائل تعطيل أيّ محاولة لإنتاج توازن سياسي حقيقي في الداخل اللبناني يجعل الحوار، مفهوماً وعملياً ممكناً وذا مغزى سياسي. حتّى إنّه لم يتوانَ عن إضعاف أو “إنهاء” أهمّ حلفائه منذ عام 2006، أي التيار الوطني الحر، عندما اعترض رئيسه على قواعد اللعبة الجديدة التي يحاول الحزب فرضها عليه بعد انتهاء ولاية عون. والأهمّ أنّ الحزب أظهر في التفافه على حركة باسيل أقصى استعداداته للمناورة والاستعراض السياسي من خلال زيارة البطريرك بشارة الراعي الذي يرفع منذ سنتين شعارات مناوئة للحزب، فإذا بالأخير يتصرّف كما لو أنّه لا خلاف أصلاً مع الراعي الذي لاقى من جهته الزيارة بالترحاب، وهو ما يطرح سؤالاً عن خطابه للمرحلة المقبلة كقطب يمكن أن يُنتج بعضاً من التوازن الداخلي المفقود لإنتاج تسوية رئاسية مضمونة.
انتفاء “الداخل”

لذلك “الداخل” الذي يدعوه الحزب إلى الحوار هو داخل معطّل من قِبل الحزب نفسه وبحكم الغائب. وبالتالي فإنّ “داخلاً” مختلّ التوازن كهذا لا يستطيع توفير غطاء سياسي كافٍ للرئيس الجديد يمكّنه من الحكم، ولا سيّما في ظلّ تداخل التعقيدات الداخلية والخارجية ووسط انهيار عميم.

والحال فإنّ من شأن أيّ تسوية إقليمية ودولية لانتخاب رئيس جديد أن تعوّض الاختلال في التوازن الداخلي وإن كانت ستأخذ في الاعتبار شروط الحزب. لكنّها شروط ستعكس تراجعاً سياسياً للحزب بالقياس إلى التسوية الرئاسية في عام 2016 التي أوصلت حليفاً صافياً له إلى سدّة الرئاسة، وهو ما لا يبدو ممكناً الآن، حتّى إنّ الحزب نفسه لا يريد هذا الأمر ويعجز عن تحقيقه ويسعى بالتالي إلى الحدّ من خسائره قدر الإمكان.

 

… واستدعاء الخارج

والحال أنّ الحزب عندما يدعو إلى عدم انتظار الخارج لانتخاب رئيس، وبالأخصّ الحوار السعودي الإيراني، فهو لا يعبّر عن قناعته بجدوى الداخل، بل عن رغبته في استدعاء الخارج من خلال الإيحاء بأنّ مفاتيح الحلّ الرئاسي في يده لا في يد إيران ولو كانت يده ويد إيران واحدة، أي أنّه لن يتحرّك رئاسياً في التوقيت والمضمون على نحو يمكن أن يضرّها.

لكن هل كلام الحزب دليلٌ على استعجاله انتخاب رئيس جديد؟

في الواقع أنّ الحزب ولو كان مستعجلاً لانتخاب رئيس فإنّ استعجاله هذا على أهميّته ليس حاسماً في الاستحقاق الرئاسي ما دامت القوى الخارجية المؤثّرة في الانتخابات الرئاسية لا تبدي حتى الآن استعجالاً محموماً لملء الفراغ الرئاسي. ولذلك فإنّ السؤال الأهمّ الآن هو: هل يسعى الحزب إلى لفت أنظار القوى الإقليمية والدولية إلى أهمية انتخاب رئيس جديد بأسرع وقت؟ أي هل يدفع باتجاه جعل “المسألة اللبنانية” أكثر خطورة؟!

 

إيلي القصيفي – أساس ميديا