17 سنة… “مقتلة” مقياس جبران!

يقع اغتيال جبران تويني في التسلسل الزمني الجرمي لحرب الاغتيالات التي حصدت رموزاً من الانتفاضة السيادية في الموقع الخامس، إذ حصدت قبله رفيق الحريري وباسل فليحان وسمير قصير وجورج حاوي. 17 سنة حتى اليوم لم يقم سوى الدليل القاطع على أن نهر الدماء التي أريقت لم يروِ تربة صالحة لإقامة تلك الدولة التي يستحقها الشهداء ولا الأحياء بدليل إعدام كل إمكانات قيام عدالة وقضاء في مستوى كارثة لبنان. باستثناء المحكمة الدولية وحكمها في ملف الحريري، ليس في عدالة الجمهورية اللبنانية اليوم قصاصة ورق حول ملفات تصفيات تمدّدت من تفجير موكب الحريري الى اغتيال لقمان سليم بما يترجم حقيقة الانهيار الكارثي الذي ضرب لبنان. ذاك الانهيار هو الانعكاس الموازي لاستحالة قيام دولة العدالة أولاً وأخيراً ولا شيء آخر.

وإن كان اليأس من انبعاث عدالة تضع حداً لتفلت إجرامي وفتن واستباحات خارجية للسيادة والاستقلال ولتسلط مرتزقة الارتهان للخارج على رقاب اللبنانيين صار بمثابة الداء القاتل لأجيال الشباب البديلة من تلك الطبقة المرتهنة الساقطة التي أوصلت البلاد الى الكارثة الراهنة فإن الأخطر إطلاقاً أن يجد جبران تويني في ذكراه الـ17 معاني شهادته تتهاوى في قسمه الوحدوي من جهة وفي نفوس ونبض الناس من جهة مقابلة. ليس غريباً أن يسقط كل تعويل وكل رهان بل كل وهم في إصلاح مسار سياسي ميؤوس منه على يد طبقة لا تزال تطبق بكل إرثها المهترئ على لبنان وتسحق آمال اللبنانيين في استعادة شيء من ذاك الوطن الذي نادى به جبران تويني ونذر نفسه وعمره لقيامه وافتداه بحياته خصوصاً أن “الصوت” الذي زلزل الوصاية والقمع والاحتلال ظل مدوّياً حتى الأمس القريب في ثورة 2019 التي لا تقلّ مواصفات الثورة فيها عن انتفاضة الأرز نفسها. ولكن المقتلة المخيفة أن نجد أنفسنا الآن، في اللحظة التي تحضر فيها ذكرى مرور 17 سنة على اغتيال جبران تويني، أمام استشهاد نبض الثورة في الناس، في اللبنانيين الذين شاهد العالم تكراراً في السابق مشاهد مشرّفة لثورتهم وصخب نبضهم الانتفاضي.

مخيف هذا الانطباع المثبت تقريباً بلا أي إمكان لدحضه بأن الاستسلام للكارثة التي أصابت لبنان في السنوات الأخيرة صار السبب الأول لاستحالة تغيير جذري وإصلاح جذري في لبنان. مخيف أن ينتقل المقتل الى الضحايا الذين صار حلمهم المتجدّد الهجرة التي تشهد نزفاً تصاعدياً لكل فئات المجتمع اللبناني بكل طوائفه ومناطقه ولا صحّة أبداً لأي استثناء بحيث بات “قسم المسلمين والمسيحيين” لجبران في مكان آخر مرعب يتوحّد فيه الناس على هجرة لبنان.

تتخذ ظاهرة اليأس من التغيير دلالاتها القاتلة حين يطل اللبنانيون على الكثير من مناطق العالم المتحركة ضد التيبّس القمعي أو الأنظمة الديكتاتورية أو الأحوال البائسة وكأن لسان حالهم “كنا أسيادها وصرنا نطبّل في عرسها”. إن كانت إيران تشهد اليوم ذلك الحدث الثوري المدوّي، فماذا تراه جبران تويني كان سيقول في استسلام اللبنانيين أمام جلّاديهم الداخليين والخارجيين، في قلب الدار وخارج أسوارها؟ أهل الدار استسلموا فلماذا إذن المعارك السيادية إن لم يضع أهل السيادة الحقيقيون الشرط الوحيد لانتخاب يليق بنهر دماء الشهداء وأنهار تضحيات الأحياء ويوصل رئيساً معياره تحقيق عدالة على مقياس شهادة جبران تويني وسائر الشهداء؟

 

نبيل بومنصف – النهار