قضاة الإعتكاف… أعلِنوا العصيان المسلّح!

يملك نقيب المحامين ناضر كسبار كلّ الحق في استيائه من “اعتكاف القضاة”، مثلما يستحق التحية على تعهّده عدم لجوء المحامين إلى أي إضراب بعدما اكتوت “العدلية” بإضراب سلفه ملحم خلف.

فالسادة القضاة “زادوا في رقة” الامتناع عن تصريف قضايا الناس حتى “انفلقت” العدالة من مسار بدأ مطالبةً بحقوق لا يرقى إليها الشك وصار مَثلبة لأنه تحوّل ضرراً لا يتسبّب بإهمال الضروري من الأحكام فحسب، بل يدفع عشرات مكاتب المحامين إلى الإقفال، ويعلِّق عمل مرفقٍ لم يبقَ غيره ملجأ بعد القوى الأمنية التي تجاهد بشقّ النفس للحدّ من التفلت والتعديات.

اللبنانيون كلّهم في همِّ الانهيار بمستوياتٍ متفاوتة. “الفرقة الناجية” من براثنه تتمثّل خصوصاً بلصوص السلطة والمصارف و”المنظومة الفاسدة”. المودعون والمتقاعدون والموظفون وصغار الكسبة والمياومون وكثرٌ من أصحاب الأعمال يعانون الأمرَّين. كان يفترض أن يعود الناس إلى الشارع لفرض التغيير ومحاسبة المجرمين، لكن “ما في اليد حيلة”، خصوصاً حين تُبلِغنا صناديق الإقتراع بأن نصف الشعب اقترع لمن حفر الحفرة وجعل ثمانين بالمئة فقراء، وأن ممثلي هؤلاء يتمنّون تكرار التجربة المقيتة التي أمضينا في ظلّها ستّ سنوات عبر حوار نيابي خدَّاع يهدف إلى “دوزنة” ترئيس أحد أركان 8 آذار.

للقضاة أولوية في تحسين ظروف العيش وبيئة العمل، وهم يحصلون عليها ضمن الممكن والمتاح، لكنّ مسؤوليتهم بحكم موقعهم وعلمهم وأخلاقيات مهنتهم تتجاوز مسؤولية أي موظف عمومي يعاني هذه الأيام. لـ”نادي القضاة” مواقف جريئة في أكثر من مجال دفاعاً عن الحقوق والحريات، لكن لا يجوز له التمسك باعتكاف مستمر منذ شهر آب. والسؤال البديهي- ولو كان تهكمياً- لكل مَن يعلن إضراباً مفتوحاً نتيجة عدم تمرّسه بالنضال النقابي: ماذا لو لم تتحقّق المطالب، أتعلنون العصيان المسلح وتعتقلون وزير العدل ورئيس مجلس القضاء؟

واجب القضاة العودة فوراً عن الاعتكاف. مكتوبٌ عليهم التضحية كسائر الناس، وإلا فلْيستقِل من شاء. وليعلموا أنّ هناك ثمناً يدفعه اللبنانيون، وجزءٌ كبيرٌ منه ناجمٌ عن مسايرة القضاة للمنظومة الحاكمة منذ ثلاثة عقود وتواطؤ بعضهم مع مرتكبي جنايات وامتناعهم عن إحقاق الحق. وما بقاء ملفات الجرائم الكبرى بيضاء، وإفلات الفاسدين الكبار كلّهم من العقاب إلّا مثال فاضح.

لكثيرين تجارب مريرة وكبيرة مع القضاء. إحدى تجاربي المتواضعة قبل سنوات كانت بقضية مطبوعات. رضخ القضاء يومها لسياسيّ نافذ، فرفع الدعوى جزائيةً بعدما جرَّها قسراً خلافاً للقانون إلى عاصمة الشمال، وتمّ استجوابي لدى قاضٍ تابع في غرفة تملأ أرضها الملفات العشوائية وفناجين القهوة المنسية لأيام… يومها كانت الودائع مُصانة وسعر الدولار ثابتاً وكانت القروض «الحرزانة» تدخل حسابات السادة القضاة!

كان يفترض أن يكون في رأس ملفات الإصلاح محاسبة القضاة المرتشين والمتخاذلين والشياطين الخرس تمهيداً للوصول إلى سلطةٍ قضائية مستقلّة. “لا تزر وازرةٌ وزرَ أخرى”، وقضاؤنا يزخر بالقضاة المهنيّين والشرفاء، لكن ما لا ينبغي السكوت عنه هو تلك الشراكة مع منظومة التعطيل عبر استمرار نقض واجب التحفّظ وعدم التزام تعليمات مجلس القضاء واعتبار حالة الفوضى العامة ضوءاً أخضر يجيز إخلال القضاة بالواجبات.

كلّنا نريد القضاة والقضاء في أحسن حال، لكن رجاءً إرأفوا بمصالح الناس.

 

 

بشارة شربل – نداء الوطن