فجأة، تحولت الأنظار مساء السبت الماضي الى ساحة ساسين في الاشرفية بعدما كانت مسمّرة في ذلك المساء الى الشاشات التي كانت تنقل مباراة منتخبيّ المغرب والبرتغال في كأس العالم التي جرت في مونديال قطر، والتي انتهت بانتصار تاريخي لفريق عربي لا سابق له منذ ولادة هذا الحدث الرياضي في النصف الأول من القرن الماضي.
عشرات الدراجات النارية انطلقت من الطريق الجديدة بعد انتهاء المباراة المشهودة واتجهت صوب الاشرفية لتحتفل بالانتصار الكروي العربي. لماذا الاشرفية وليس الضاحية الجنوبية لبيروت الملاصقة للطريق الجديدة، أو كورنيش المنارة الذي كان وجهة معتادة للاحتفال؟ لا جواب حتى هذه اللحظة. لكن ما رافق وصول أرتال الدراجات النارية الى قلب الاشرفية يحوّل الموضوع الى مكان آخر حيث لا وجود للاحتفالات أو ما شابهها في مناسبات مشابهة.
من بين الشهود على ما جرى مساء السبت ما كتبه شربل زوين على “فايسبوك” واوردته “النهار” ليلة الدراجات النارية، وفيه: “حوالى الساعة الثامنة وعشر دقائق، إقتحمت مجموعة من الدراجات النارية تقدّر بنحو الستين آتية من الطريق الجديدة، وكانت تُطبّل وتُزمّر لفوز فريق المغرب على البرتغال في المونديال، إقتحمت بطريقة إستفزازية حشود العائلات والأطفال والشبيبة وتوقفت أمام شجرة الميلاد في وسط ساحة ساسين حيث كانت فرقة موسيقيّة تعزف ألحاناً ميلاديّة، وراحت تهتف بعبارات “الله أكبر” وترفع الأذان لبعض الوقت، إلى أن بدأ بعضهم بالتهديد والوعيد وتوجيه كلام نابٍ وشتائم، ما جعل الحشود وحرس الساحة يَستنفرون لهذه الغزوة، والجيش اتخذ وضعية التأهب لملاحقة الدراجات الناريّة التي راحت تَفرّ في اتجاه السوديكو متعرّضة في طريقها لعدد من السيارات والمارة، ما أدى الى تضارب وتشابك بالأيدي ووقوع بعض الجرحى”.
هذا هو الخبر كما ورد غير منمّق او مؤدلج. لكن تردداته اعادت الى الاذهان تاريخا يمتد الى أعوام طويلة، كانت فيه طوابير الدراجات النارية في ظروف مشابهة، تحمل دمغة الثنائي الشيعي وتستعير فيه أسلوب “الباسيج” الإيراني الذي أنشأه الامام الخميني عام 1979 بعد شهور على سقوط الشاه وتسلّم رجال الدين السلطة في إيران. ومن وظيفة هذا التشكيل شبه العسكري قمع التحركات المناهضة للنظام، وهذه الوظيفة مستمرة حتى اليوم، وخصوصا في قمع ثورة النساء بصورة وحشية، ما تسبب بسقوط مئات القتلى، والحبل على الجرّار.
ستكون اللائحة طويلة لعرض مآثر “الباسيج اللبناني”، ولعل من أهمها ما يتعلق بقمع إنتفاضة 17 تشرين الأول عام 2019 وفي الأعوام التي تلتها. لكن هذه المرة إنطلقت قافلة الدراجات النارية من الطريق الجديدة وليس من خندق الغميق في بيروت ومن المشرفية في الضاحية الجنوبية للعاصمة. فهل يجوز الكلام عن “الباسيج اللبناني” مجددا؟
بحسب موقع “جنوبية” الالكتروني، فإن ما جرى وصفه ـبـ”غزوة” الاشرفية “يقف وراءها الثنائي الشيعي الذي يتحرّك أمنياً في الشارع عند انسداد الأفق السياسي”.
أما الرئيس فؤاد السنيورة، فقد اعلن في بيان انه “نظر بعين القلق والريبة لحادثة تجوّل عدد كبير من الدراجات النارية، التي حمل سائقوها الشعارات اللارياضية في منطقة الاشرفية، وذلك في لحظة احتقان وطنية وسياسية وعلى كل المستويات”. ودعا الى “التنبه إلى الفِخاخ المنصوبة والنيات المبيّتة، حيث يُفترض بالمؤسسات العسكرية والأمنية أن تقوم بدورها الترقبي والحمائي، كما يتوجب أيضاً على جميع المسؤولين السياسيين وفي مقدمهم نواب العاصمة أن يبادروا إلى التأكيد على وحدتها وأمنها واستقرارها وطمأنينة أهلها”.
أين نواب العاصمة الذين دعاهم الرئيس السنيورة الى التحرّك؟ إذا ما وضعنا جانبا النواب الذين يمثلون الشطر الشرقي لبيروت، أطل نائب من الشطر الغربي ينتمي الى الطريق الجديدة تحديدا، هو النائب نبيل بدر رئيسُ نادي الأنصار في الوقت نفسه، ليقول: “إنّ التظاهرةَ احتفاليةٌ رياضيةٌ خاصة، وإنّ فريقاً عربياً وَصَلَ إلى نِصفِ النهائي”، لافتاً إلى أنّ “عددَ الأعلامِ المرفوعة كانَ محدوداً جداً، أما رفْعُ العَلمِ الفِلَسطيني إنْ حَصَل، فقد شاهدْنا هذا التعاطفَ الكبير في مونديال قطر معَ القضيةِ الفِلَسطينية، والمسيحيون ليسوا ضد القضيةِ الفِلَسطينية”.
هل الامر على النحو الذي صوّره النائب بدر؟ كل الوقائع تخالف النائب الذي تعامل مع “اقتحام تم بطريقة إستفزازية حشود العائلات والأطفال والشبيبة في ساحة ساسين والتوقف أمام شجرة الميلاد في وسط الساحة حيث كانت فرقة موسيقيّة تعزف ألحاناً ميلاديّة، وراحت تهتف بعبارات “الله أكبر” وترفع الأذان لبعض الوقت، إلى أن بدأ بعضهم بالتهديد والوعيد وتوجيه كلام نابٍ وشتائم!”.
لعل ما جرى في الاشرفية مساء السبت ينكأ جروحاً يظن مَن خبروها قبل 16 عاما انها قد اندملت، وتحديدا في بداية شباط عام 2006. ففي ذلك الحين حوادث شغب واعتداء على دور عبادة ومحال تجارية ومكاتب في منطقة الاشرفية المسيحية، خلال تظاهرة الاحتجاج امام القنصلية الدانماركية على الاساءة الى الرسول العربي برسوم كاريكاتورية.
كيف كانت ردة الفعل في ذلك الزمن؟ رئيس “تيار المستقبل” النائب سعد الحريري وصف ما حصل في الاشرفية بانه “عدوان على السلم الأهلي”. وفي الاطار نفسه، دعا المرجع الشيعي السيد محمد حسين فضل الله الى “مواجهة كل الجهات المثيرة للفتنة، ومحاسبة الذين اربكوا الواقع الوطني كله. ونقدر حركة العقلاء في تطويق كل خطوط الفتنة الطائفية والسياسية”.
الى ذلك، عرض مفتي الجمهورية الشيخ محمد رشيد قباني حوادث الاشرفية مع النائب السابق تمام سلام الذي قال عقب اللقاء: “نردد في كل مناسبة ان القيادات الدينية هي مرجعياتنا. ونحن نرى ان موقف دار الفتوى وصاحب السماحة في ما حدث له اثر ايجابي وبنّاء لاستيعاب المفاعيل السلبية وامتصاصها لهذا الحدث الذي كاد ان يودي بنا في لبنان الى مجاهل من الاخطار لا نتمناها في هذه الظروف تحديدا”. كما استقبل المفتي قباني وفدا كبيرا من العلماء الذين عبّروا عن “استنكارهم وإدانتهم لمجموعة المندسين في مسيرة الاستنكار للنبي محمد (ص) والتي ضمت عشرات آلاف المسلمين الذين تداعوا من المناطق اللبنانية كافة، وفيهم العلماء المخلصون للتعبير عن مشاعرهم بطريقة سلمية ومشروعة”.
هكذا كانت ردود فعل المسلمين قبل 16 عاما. بينما بدا موقف الرئيس السنيورة ومثله موقف مشابه للنائب اشرف ريفي يتيما. وهذا ما يدعم رأي خبراء أمنيين ان عملا مخابراتيا تسلل مساء السبت من الطريق الجديدة الى ساحة ساسين، لكن لم يكن هناك من حَكم يطلق الصافرة ، كالتي كانت في الماضي حيث كان هناك مَن يحرس السلم الأهلي.
أحمد عياش – النهار