قرأت في مؤتمر رئيس التيار الوطني الحر الأستاذ جبران باسيل، رسالة أصلية إلى عنوان محدد، مصحوبة برسائل فرعية إلى عناوين مغفلة، تحمل كلها طوابع بريدية عليها رسم حارة حريك.
وفي العادة، لا تغيب العصبيةُ ولا النفسُ العدواني عن تصريحات الوزير باسيل الذي يتعمد الازدراء بخصومه ورش الملح على الجرح؛ وهذا برأيي مُرَكَّبٌ نفسي لا علاج له إلا بتجاهله، تلافيًا لمزيد من إثارة النعرات. لكن دقة المرحلة فرضت على أقلام الحلفاء والخصوم والمحايدين محاولة امتصاص الاحتدام، رجاءةَ أن تعبر العاصفةُ بأقلّ الأضرار، فكان تفنيدٌ وكانت قراءاتٌ وكانت بيانات ردٍّ وتوضيح.
أول ما قاله رئيس التيار بفصيح لسان لا لُكْنَةَ فيه: نحن الغطاء، وأنا كاشف الغطاء عندما تدعو الضرورة، فاستعدوا لفصل شتاء قارس. وقال أيضًا: أنا لا ألوم رئيس الحكومة الذي “لا يسترجي” الإقدام على فعلته لولا أنه يعمل لحساب “مُشَغِّيله” أصحاب الوعد غير الصادق؛ وأضاف: إذا لم تكن تشريعات للامركزية موسعة، فنحن لها بالممارسة والتطبيق المستقل، من غير أن يغفل التذكير بافتراشه الشوارع مع حلفائه ضد الحكومة البتراء طوال سنتين، وبعدم تركه لهم في محنتهم، كما يتركونه الآن في معركته المقدسة في الدفاع عن الدستور وصلاحيات رئيس الجمهورية.
ولم يكتفِ بالتصريح بل ذهب إلى تلميح أكثر صراحة بأنه قد يهجر الأوراق البيضاء إلى أوراق مُحَبَّرة منعًا لوصول الوزير السابق سليمان فرنجية، الذي يكنُّ له باسيل عداوة لا يشفع فيها الانتماء إلى خطٍّ واحد. أما الذروة الخفية التي مررها رئيس التيار، فهي أن للرئاسة مواصفاتٍ وأثمانًا يدفعها مستحقوها نفيًا وقتلًا و…”سجنًا”، فكأن باسيل بهذا يتوعد حزب الله بمغازلة رئيس القوات اللبنانية (ناسك اليرزة) لكسب الود مجددًا، علَّ “معراب” تستعيد احتفاليتها الغابرة، فتقرع الكؤوس تحت شعار “أوعى خيك”.
لطالما دعوت إلى الكلام السياسي الصريح الخالي من التورية والالتباس والتقيَّة، حتى لا ننفق الزمن الثمين في ملء الهواء بالثرثرة الدستورية، والخطاب “العلماني” الكاذب المضبوط بالجرم الطائفي المشهود، علمًا أنني أنتمي إلى “الواقعية العلمانية” التي لا تنكر التنوع اللبناني بأشكاله الطائفية والمذهبية والاجتماعية والثقافية. ولذلك طالما نظرت إلى هذا الوضع، نظرة من يرى قومًا يملكون أصولًاً ثمينة جدًّا، لكنهم لا يستثمرونها في خطة إنمائية طموحة، فلا ينسّقون بين ريادة الماروني، وامتداد السني وخبرته، وصمود الدرزي، ومقاومة الشيعي، وثقافة وحنكة الكاثوليكي والأرثوذكسي، ولا يأخذون بعين الاعتبار تمسك بقية الطوائف بوطنها، بل يذهبون إلى تبديد تلك الأصول ودفعها إلى التهاتر فالتقاتل؛ وكلما أعيت الحيلة “الفتوة” – أي البلطجي – وبان فشله ورداءة مشروعه، نفخ في الصور وطالب مرضى السرطان وغسيل الكلى بأن يهتفوا: “الموت ولا انتهاك الدستور”. وهذا يذكرني بالحادثة الإنجيلية التي رواها القديس لوقا عن شفاء يسوع في يوم سبتٍ لامرأةٍ مريضةٍ “ربطها الشيطان”، كيف انتفض رئيس المجمع اليهودي معترضًا على فعل الشفاء يوم السبت، وكيف انتهره السيد المسيح قائلًا: “يا مرائي ألا يحلُّ كلُّ واحدٍ منكم في السبت ثوره أو حماره ويمضي به ليسقيه؟ وهذه ابنةُ إبراهيم أما كان ينبغي أن تحل من هذا الرباط في يوم السبت؟” فإلى من نصغي يا تُرى؟ أإلى إنجيل لوقا أم إلى كلام جبران؟
أما أولئك الذين يشكون ويعانون من “الانتهاك” في هذه الأيام، فلهم أقول: ألم يكن انتهاكًا للدستور، بل للوطن، تعطيل الدولة سبع سنوات من أصل أربع عشرة؟ وهل كانت الأمانة الدستورية تقتضي إذلال الرؤساء المكلفين وهم يقيسون الطريق إلى القصر الجمهوري الممتنع عن تسهيل الأمور؟ وهل من باب صدق المعاملة مع الطوائف، أن يُزْدَرى بممثليهم بأقذع الألفاظ والتصرفات، بدءًا من “تذكرة سفر بلا عودة” للرئيس سعد الحريري الذي نُعِتَ أيضًا بالكذب، مرورًا بالبلطجي، وصولًا إلى نعت الرئيس ميقاتي بالخبث والجبن؟ وإذا كان “دورنا سلاحنا” كما قال الوزير باسيل في رسالته إلى من له أذنان للسمع، فهل تقبل المسيحية أن تجعل دور أبنائها تعطيلًا كاملًا طويلًا من أجل بلوغ السلطة، ثمَّ تعطيلًا طويلًا كاملًا خلال القيام بها كما حصل في العقدين الأخيرين من عمر لبنان؟
لقد استثمر الوزير باسيل في “مار مخايل” كثيرًا، ونال من ملائكته ما يفيض عن مساحة “غِطائه” طولًا وعرضًا، ذلك أن “الحلف القيصري” الذي انعقد في الكنيسة قام على أن “البردان” ينشد الدفء من صاحب “اللِّحاف” لقاء بدلات باهظة، بعد أن وجدت “المقاومة” نفسها في إقليم القرِّ، فبدَت شعبية التيار بمنزلة سلعة للإيجار أو الإعارة. فكلَّما قَصَّر “البردان” عن دفع المستحق أو غير المستحق، هدد زعيم “اللحافِيين” بأنه “ساحب اللحاف”، وقاطع الحرارة عن الحلفاء، بعد أن قطعها عن الشعب اللبناني برمته على مدى سني ولاياته الكهربائية. المفارقة في الأمر أن الفريقين ما تحالفا إلا لتبادل التلاحف، حتى إن المغالاة في ذكر الغطاء المسيحي تستدعي تذكيرًا بغطاء حزب الله الفائق التأثير.
وفي المقلب الآخر، فإن غالبية المسلمين بمذاهبهم، وبعد تجارب الحروب والفوضى والاستباحة واستغلال قضايا العروبة استغلالًا مدمرًا ومتآمرًا، أيقنوا في أعماقهم أن انتماءهم لدولة لبنان هو ملاذهم ومصيرهم، وأنهم في وجدانهم يقرون ويوافقون على ريادة الدور المسيحي في إنشاء لبنان الكبير، بنظام ديمقراطي تعددي يقوم على الحرية، ويصون مواطنيه جميعهم، من أنظمة الاستبداد والحزب الواحد، والرأي الواحد والزعيم الواحد؛ وعلى هذا، فهم ليسوا بمستجيبين لدعاوى الطلاق أو التفريق، لا أمام المحاكم الشرعية ولا الروحية، فالشقاق والنزاع داخل العائلة الصغيرة له أحكامه الصغيرة، أما الشقاق في العائلة الكبيرة فيحتاج إلى عقول كبيرة ورصانه عالية، وعظمة مطلقة لدى المرجعيات، تصدُّ كلَّ من ينفخ في الجمر الطائفي وتحْجُر على محترفي التسلط والمراهقة السياسية التي لم تعد تليق بأعمار ممارسيها بعد أن نبتت لحاهم واشتعل الشيب فيها.
منذ مدة طويلة لم أعد أهتم بمثيري الغرائز الطائفية ليقينٍ كان عندي بأن الشعب اللبناني الذي وحَّدته الأزمات والويلات لم يعد يأكل من تلك المائدة المسمومة. أما اليوم، فأنا أعلن قلقي لمشاهدة الدعوات المقامرة والنزقة المستشرية التي لم تردعها بعد الجهات الأكثر تمثيلًا للمسيحيين، والأكثر تضررًا من تلك السياسات المتكررة والعقيمة والمدمرة التي أدمنت تخريب كل شيء إذا لم تحصل على كل شيء.
في الآية 26 من سورة النحل من القرآن الكريم: “قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ”.
إن فرص تلافي انهيار السقف علينا من فوقنا تضيق من حيث لا يشعرون، فلا نسمحن لبنياننا أن يُنْخَرَ من القواعد التي لا تُدَعَّم إلا “بنبذ العنف والكراهية” وتثبيت قيم التآلف المبني على رعاية الحقوق والاحترام المتبادل بين “معتنقي مختلف الأديان والاتجاهات الفكرية” على ما قاله بالأمس سماحة السيد السيستاني لوكيل الأمين العام للأمم المتحدة السيد “ميغيل موراتينوس”، وعلى ما أشار إليه الأستاذ عمر مسقاوي حين كتب أن الوحدة في اتباع الطريق الصحيح ليس عملًا توافقيًّا ولا تعاقديًّا ولا هو جبهة في مواجهة أخرى، بل هو أسلوب مشترك في مواجهة مصاعب الحياة.
كان نجيب محفوظ مفتونًا بالحارة المصرية التي ربي فيها وتعلم منها سرَّ العلاقات الاجتماعية واستنبط شخصيات كثيرة من أعماقها، بل لعل أهم أفكاره كتبها في قصة “أولاد حارتنا” التي بسببها حرَّض الظلاميون على قتله وأرسلوا إليه يطعنه في رقبته شخصًا لم يقرأ الرواية بل ولا أيَّ روايةٍ على الإطلاق.
وفي قصة قصيرة له تحولت إلى فيلم اسمه ” فتوات الحسنية” يروي هيمنة “الفُتُوَّات” على السكان، كيف كانوا يفرضون عليهم الأتاوات، ويستبيحون الأعراض، وينتهكون الكرامات، وكيف أن واحداً تمادى حتى أقصى درجات القهر، فأثار حفيظة شاب شهم قرر التخلص منه، فدأب على أن يدرب نفسه على المبارزة بالنبُّوت، إلى أن جاء اليوم، وتصدى الشاب للفتوة الجائر وهزمه شر هزيمة ودحره إلى خارج الحارة، فالتفَّ المظلومون حول فتاهم الجديد الذي استمرأ الزعامة، فصار فتوة ظالمًا، إلى أن قُيِّضَ للحارة ضابط شرطة ذو مبادىء وشجاعة، استطاع أن يضع حدًّا للفتوة الجديد ويطرده أيضًا، فلما أحبه الناس والتفوا حوله، خلع ثياب الشرطة وأصبح فتوة لا يقل بطشًا عن سابقيه.
هكذا كان حال الحارة التي تناوب عليها الظَّلَمَة تحت أسماء مختلفة أفضت كلها إلى الرسو عند اسم واحد هو “الفتوَّة”. فكرة القصة تدور حول الحاكم الذي يستهين بمصالح العامة ويسخرها لمطامعه، طاعنًا آمال الناس فيه، واستبشارهم بأنه المخلص الذي سيفي بوعوده، التي ما كانت سوى سلّم لاعتلاء سلطة جائرة.
إن أول إجراء لوقف الانهيار يكون بإنتخاب رئيس حقيقي عظيم الجدارة، لا فُتَّوة في حارة.
رشيد درباس – النهار