أفول “الديمقراطيّة اللبنانيّة”!

أغلب الظنّ أنّ الأفول التدريجي لذاك النظام الغريب المسمّى «الديمقراطيّة اللبنانيّة» ليس مرتبطاً بالتراجع الكبير الذي تشهده الديمقراطيّات حول العالم، لا سيّما مع طغيان الخطاب السياسي المتطرف المرتكز غالباً إلى نزعاتٍ يمينيّة شوفينيّة تعتمدُ الحقد والكراهية في عمق أدبياتها وسياساتها وأهدافها، وهو ما يُسجّل، للمفارقة، إنتصاراتٍ ملحوظة في قلب أوروبا والغرب عموماً.

وأغلب الظنّ أيضاً أنّ «التملّص» الشعبي المتنامي من إحترام القيم الديمقراطيّة التي تستند إلى عناوين برّاقة مثل الحريّات وتطبيق القانون والدستور واحترام المؤسسات وحقوق الإنسان، يعود في جانب أساسي منه إلى الأوضاع الإقتصاديّة الصعبة التي يعيشها الغرب عموماً.

ففي تلك البلدان، تتصدّرُ معدلات التضخّم مستويات قياسيّة غير مسبوقة أيضاً نتيجة السياسات الاقتصاديّة النيوليبراليّة اليمينيّة المتفلتة من أيّ قيود، والتي ترمي بصورة مستمرة إلى تقييد دور الدولة والحد من وظائفها وأدوارها الإجتماعيّة، تحت عناوين «الحداثة» والحريّات الاقتصاديّة والمبادرة الفرديّة وسواها من «الكليشهات» التي توظفها الأنظمة الرأسماليّة في خدمة الشركات العابرة للحدود والقارات، خدمة لمصالح ومنتفعات ماليّة وتجاريّة على حساب العدالة الإجتماعيّة.

الأزمة السياسيّة اللبنانيّة بعيدة في عمقها عن كل تلك الإشكاليّات والعثرات، فقلما يكترث أحد في لبنان لقضيّة العدالة الإجتماعيّة أو التنمية البشريّة والمجتمعيّة، وقلّما يُتاح للبنانيين فعلاً أن يمارسوا حرياتهم في إطار نظام ديمقراطي فاعل تصب مخرجاته في خدمة المواطن على الصعيدين الفردي والجماعي.

لا بل على العكس تماماً، ثمّة سياسات منهجيّة تمعن بعض الأطراف السياسيّة في ممارستها وفقاً لحساباتها ومصالحها حصراً من دون أي إهتمام جدي بمصلحة سائر اللبنانيين. كما أنّ التفريغ المنظّم «للديمقراطيّة اللبنانيّة» من معانيها ومضامينها بات يشكل تهديداً للصيغة برمتها وليس للنظام.

بطبيعة الحال، لا يمكن لأي عاقل أن يكون معجباً بالديمقراطيّة اللبنانيّة بسبب عقمها وعثراتها وفجواتها التي لا تُردم، بل إنها تزداد عمقاً على ضوء الإنقسام حول الثوابت الوطنيّة الكبرى وفي مقدّمها مسألة الهوية والسياسة الخارجيّة والدفاعيّة. ولا يمكن لأي مواطن يحلم بالمساواة في وطن واحد موحد أن يتغاضى عن الفواصل السياسيّة والاجتماعيّة الكبرى القائمة في المجتمع، والتي تميّز بين المواطنين وفق إنتماءاتهم الطائفيّة والمذهبيّة.

إلا أنّ كل ذلك لا يعني القبول بأي شكل من الأشكال بأن تُسقط هذه الديمقراطيّة ذات الطابع التوافقي، رغم مصاعبه الجمّة، لتُستبدل بديكتاتوريّة مقنّعة تسلخ لبنان عن محيطه العربي وتعيد تركيب أسسه الإجتماعيّة وفق معطيات جديدة لا تتلاءم مع طبيعة تكوينه ودوره ورسالته، وتعرّضه لمخاطر قد تطيح بكل الصيغة الحالية.

الطبيعة التعدديّة للديمقراطيّة اللبنانيّة تعني إستحالة القبول بفكرة مصادرة أي طرف للقرار الوطني اللبناني المستقل أو القبول بأن يُفرض الرأي السياسي لهذا الفريق أو ذاك على الشرائح الأخرى من اللبنانيين. ولقد دلّت كل التجارب السابقة، وبعضها كان دامياً ومؤلماً أنّه ما من أحد يقدر على فرض إرادته السياسيّة على الآخرين، حتى ولو كانت الأكلاف باهظة.

ماذا يعني، على سبيل المثال، أن يستحضر محور الممانعة «نموذجيْ» إميل لحود وميشال عون للرئاسة مجدداً؟ هل فعلاً هذا ما يتوق إليه الشعب اللبناني بعد كل المآسي التي تسبب بها كل منهما، على طريقته، لجميع المواطنين دون تفرقة أو إستثناء؟ هل حقاً المطلوب إعادة إستنساخ تلك التجارب الفاشلة والسيئة في الحكم ووضع البلاد «تحت رحمتها» لست سنوات إضافيّة؟

لم يعد بوسع محور الممانعة أن يفرض الرئيس الذي يريد على اللبنانيين، ولو كان بوسعه مع حلفائه لتعطيل إنتخاب شخصيّة وطنيّة تتسم بالاعتدال وتعيد الثقة بلبنان. أهكذا تُدار الأوطان؟

 

رامي الرّيس – نداء الوطن