نتساقط… في اللحظة “التاريخية”!

لا ندري كم لا يزال اتفاق الترسيم البحري بين لبنان وإسرائيل يحتمل وصف “التاريخي” الذي اغدقه نائب رئيس مجلس النواب الياس بو صعب على مسودة الاتفاق الأخيرة زافاً بشرى الخاتمة السعيدة “المفترضة” لأكثر من عقد من مكوكيات الوساطة الأميركية، ثم كرر الوصف القادة الإسرائيليون انفسهم. لا نشكك بأهمية الحدث الترسيمي بقدر ما نشكك بما اذا كان سيسمح لتطور إيجابي بهذا الحجم والبُعد الاستثنائي بأن يفيد منه لبنان، خصوصا ان آخر نسخ هذا الاتفاق تعكس جراحة معقدة أجريت له لتجعله يحفظ ماء وجه لبنان الرسمي، وبالأحرى “حزب الله”، لإسقاط أي “شبهة” تطبيعية مع إسرائيل، كما يحفظ ورقة التوت لحكومة يائير لابيد وتحجب عنه “شبهة” الاستسلام لحسن نصرالله كما اتهمه بها بنيامين نتنياهو.

ولكننا لا نبتعد عن الواقع الحقيقي الذي يتفاعل فيه اللبنانيون إن قلنا ان هذا الترسيم جاء على غرار كل شيء في لبنان متأخرا جدا الى حدود اسقاطه او سقوطه عمداً على لحظة توهّج هي وحدها ما يصحّ فيها وصف التاريخي، فإذ بنا أمام عجز اللبنانيين عن التقاط لحظة استثنائية بكل المعايير في تاريخ الصراع مع إسرائيل، مهما كان مضمون الاتفاق، ومع ذلك لا تجد للحدث ذاك الدويّ في الداخل المأزوم بانهيارات متدحرجة.

مذهل هذا الاحتدام في الشعور الذي يضع اللبنانيين امام “اشتباك” ذاتي غير محسوم بين مجموعة استحقاقات تتزامن وتتسابق و”تتدافش” دفعة واحدة حاملة شتى أنواع الانفعالات والمخاوف والهواجس وكأنه لم يكفِ اللبنانيين ما تساقط وانهال عليهم وفوق رؤوسهم من كوارث وانهيارات في الأعوام الثلاثة الأخيرة حتى جاءت اللحظة المتوهجة الآن لتتوّج يومياتهم بكل المذهل من المشاعر والانفعالات المتصارعة والمتصادمة.

ماذا تراه سيدرأ اتفاق الترسيم، إن سلك بقايا مساره بسلام ولم يفجّره فتيل ما، عن اللبنانيين ان تزامنت “احتفاليات” مكتومة او معلنة بالتوصل اليه مع الانهيار “التاريخي” الآخر في مسار دستوري يهرول سريعا عبر شغور رئاسي ونزاع حكومي يضعان لبنان بأسوأ من الفراغ وبأشد التداعيات خطورة حتى ما شهده منها في حقبات الحرب؟ الغريب ان يتلقى اللبنانيون في الساعات الأخيرة انباء إيجابية متهادية عن ترسيم “تاريخي” زاحف على ركام انباء مشؤومة عن فراغ دستوري زاحف فيذهب “خير هذا بشرِّ ذاك فاذا الله قد عفا”!ِّ

لعل ما لا يتنبه اليه “معظمنا” لئلا نبقى في دوامة العقم المطلق التي نطالب منها يأسا ما يسمى الطبقة السياسية والنيابية بتجنيبنا شرور الاجهاز هذه المرة على النظام والدولة والمؤسسات وكل بقايا الهيكل الدستوري، ان هؤلاء الاشاوس يظهرون علناً وبشكل سافر حاجتهم القصوى الى ما يماثل الوسيط هوكشتاين في الاستحقاقات الداخلية أيضا اسوة بمفاوضات جرت وتجري بالواسطة مع الدولة العدوة إسرائيل (حتى اشعار آخر). المتنفذون والنافذون في هذه الطبقة ذهبوا بجرأة مشهودة الى الترسيم ولا يتجرأون على تسمية مرشحهم في مقارعة مرشح المعارضة لانهم يستثمرون في التعطيل والفراغ ولانهم أصحاب ثقافة مزدوجة تتيح لهم التنمر والاستقواء في الداخل بذرائع بدأت تنهار وتنكشف تباعا ولن يحجبها لا ترسيم ولا مَن يرسمون. لن يكون الترسيم، حتى لو استحق صفة تاريخية، جدار حماية اطلاقا للبنان “منزوع النظام والدولة” مهما تفنّنوا في الآتي من الساعات والأيام في التباهي بإنجاز لم تنكشف بعد اسرار ولادته وخلفياتها الأبعد من الواجهة “الممنوحة” للسلطة الحالية.

 

 

نبيل بومنصف – النهار