ثورة على الثورة

كتب سالم الخوري:

يعلّمنا التاريخ أنّ للثورات الكبرى أوجه شبهٍ عديدة، إن في نشأتها وتطوّرها ومحصّلتها، وإن في قدرتها على الإطاحة بكل الذين يقفون في طريقها، أو يصطفّون إلى جانبها، أو حتى الذين يحتشدون خلفها، أي الثوّار أنفسهم. فكلمة “ثورة” هي في الأصل مصطلح لاتيني، تعريبه “عودة إلى الوراء”. فكم من ثورة عادت وارتدّت على ثوّارٍ لم يُحسنوا استثمارها؟

ألم يسقط رأس روبسبيير، عرّاب الثورة الفرنسية، تحت نصل المقصلة ذاتها التي شطرت رأس الملك لويس السادس عشر؟

والثورات اللبنانية المعاصرة، وإن تميّزت، في سلميّتها، عن مسمّياتها في العالم، فقد بقيت في محصّلتها النهائية هي هي: عودة الى الوراء.

ففي العام ٢٠٠٥، بعدما انفجر برميل الاحتقان ثورةً في وجه الاحتلال السوري وأدواته، على أثر الشرارة التي انطلقت من اغتيال الرئيس الحريري، وبعدما طرد الثوّار اللبنانيون جيش الأسد من بلدهم، فاضت لدى بعض القياديين في ثورة الأرز مشاعر أخويّة جيّاشة ساذجة، ليتوقّف الزحف المقدّس في السنتيمترات الأخيرة من مسيرة التحرير الكامل للدولة، وتتوالى الأخطاء والخطايا.

وبدل الإجهاز على ودائع النظام السوري في لبنان، من وزراء ورؤساء وعملاء، وصولًا إلى الخطر الأكبر على الجمهورية، أي حزب الله، انتهج بعض الثوار سياسة “مدّ اليد”، فقُطِعت أيديهم، وضاعت فرصة الاستفادة من الثورة، فطار البلد. وما لبث أن عاد محور الممانعة الى لبنان من ثقب الإبرة، بعد أن طُرد من الباب العريض. وانفرط الحلف السياسي بين قيادات الرابع عشر من آذار، بالرغم من استمرار الاحترام والمودّة بين القواعد الشعبية، لشدة التقارب في وجهات النظر.

“كل الثورات المعاصرة أدت الى تعزيز سلطة الدولة – ألبير كامو”

وفي مقابل مشهد التشرذم في صفوف القوى السيادية، بدا التماسك والانسجام التام واضحًا بين مكوّنات قوى الممانعة، بسبب ضابط الايقاع الأوحد في الضاحية من جهة، وبسبب سخاء حزب الله في توزيع المغانم على حلفائه من جهة أخرى، فتمكّنت من استعادة المبادرة، وفرضت رئيسًا يؤمن مصالح المحور على حساب مصلحة لبنان.

أمّا الخيبة الكبرى التي أصابت ثورة ١٧ تشرين، فهي ليست إلّا تكرارًا لسيناريو سابقتها، حيث استفادت السلطة المتماسكة بقيادة حزب الله من تفكُّك المعارضين، بسبب منطق الاستعلاء الذي انتهجه جزء ممن يدّعون أنهم ثوار، ورفضهم مدّ الجسور بينهم وبين من يلتقي معهم على مبدأ السيادة ومحاربة الفساد، بحجة “كلن يعني كلن”.

فعاد لبنان الى نقطة الصفر. وعاد نبيه بري، والياس بو صعب، ونجيب ميقاتي، مع حفظ ألقاب الرياسة طبعًا، والله يستر من الآتي…

ولبنان اليوم أمام مرحلة مفصلية: فإمّا رئيسُ جمهورية، وإما “رئيسٌ للجمهورية”.

فالمشهد القاتم الذي تجلّى في الجلسة الاولى لانتخاب الرئيس، ينبئ بأن اللبنانيين أضحوا رهائن عند نوّاب في المجلس برتبة هواة في السياسة تبيّن، منذ انتخابهم وحتى هذه اللحظة، أنّهم دون مستوى المرحلة وتحدّياتها.

وأمام خطر الاتيان برئيس ممانع، نتيجة شرذمة المعارضين وتعنّت بعض “الثوّار”، لا بدّ من العودة الى الشارع. لا بدّ من ثورة على الذين احتكروا “الثورة”، علّهم يتذكّرون العناوين التي أجازت لهم الدخول تحت قبة البرلمان.
فإمّا أن يبقى اللبنانيون في مقاعد المتفرّجين، مستسلمين لمصير أسود يقرره السّذّج، ويستعدّون لرحلة ثانية في الجحيم مدّتها ست سنوات أسوأ من التي مرّت، وإمّا أن يشعلوا ثورة لتصويب المسار باتجاه رئيس سيادي إصلاحي لبناني صرف، فتبدأ مسيرة التعافي والخروج من النفق.