نهاية عهد التخريب: العودة إلى الطائف لاستعادة الدولة

نهايات عهد ميشال عون وصهره جبران باسيل مثل بداياته: لا هَمَّ غير هدم الطائف والدستور ووثيقة الوفاق الوطني. والغرض من وراء ذلك: لا غرض ولا هدف غير كراهية العيش المشترك، والأمل المستحيل في أن يسريَ بعد عون على يد صهره ما سرى في أيّامه المجيدة: لا دستور ولا قانون وحتى لا مزرعة إلاّ إذا انحصرت ملكيّتها بصهره وبأعوانه.

مقدمات الطائف

رُويت القصّة مئات المرّات، ولا بدّ من إعادة روايتها ليتّضح معناها:

ظلَّ النزاع الداخلي يتفاقم بعد خروج قوات منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان. وفي المناطق ذات الغالبيّة المسلمة استمرّ الصراع لتصفية شبكات ياسر عرفات، كما جرت التسمية. واستمرّ أيضاً الصراع للسيطرة على المدن السنّيّة: بيروت وطرابلس وصيدا. ولمّا تحقّق ذلك للسوريّين العائدين وأتباعهم، حاولوا القيام بما يشبه ذلك في مناطق الجبل والساحل المسيحيّ، فلمّا فشلوا في ذلك (1985)، ازدادت المؤتمرات بالخارج لحلّ النزاع (الداخلي) ما بين لوزان وجنيف، واجتماعات وزيارات لجنة الوساطة العربية.

كلّ ذلك ما أدّى إلى نتيجة، لثلاثة أسباب:

– لأنّ المسيحيين المقاتلين والسياسيين ما أرادوا التنازل عن شيء.

– ولأنّ السوريّين ما كانوا قد اطمأنّوا إلى السيطرة الكاملة.

– ولأنّ الجنرال عون، قائد الجيش يومئذٍ، أراد ضمان الوصول إلى رئاسة الجمهورية، فشنّ حربين، أُولاهما داخلية للانفراد بالسيطرة في المنطقة المسيحية (حرب الإلغاء)، وثانيتهما حرب التحرير لمحاولة إخراج الجيش السوري من لبنان.

الطائف.. والأخضر الإبراهيمي

ذكّرنا السفير السعودي بلبنان وليد البخاري – أثناء إعلانه الاحتفال المشكور بالذكرى الثالثة والثلاثين لاتفاق الطائف – بشخصيّات ذلك العهد العربي الذي ما ترك سبيلاً إلّا وحاوله لإنهاء النزاع في لبنان وعليه، واستعادة الدولة: الملك فهد وسعود الفيصل، والأخضر الإبراهيمي، ورفيق الحريري.

في كلّ مؤتمرات القمّة العربية واجتماعات الجامعة العربية كانت المشكلة اللبنانية بنداً ثابتاً، ولجان الوساطة تتوالى بما في ذلك التواصل مع الدول الكبرى، والعلاقات السعودية مع الرئيس السوري حافظ الأسد. أمّا رفيق الحريري فقد كانت مهمّته (آتياً دائماً من السعودية عبر سورية) الاتصال والتواصل مع زعماء السلاح والسياسيّين (وقد صاروا خليطاً مشتركاً ومتشاركاً) لإقناعهم بالتلاقي على حلٍّ وسطٍ لا يقتل الذئب ولا يُفني الغنم (كما يُقال).

الجنة ولو بالسلاسل

على وقع الإيذاء الذي نزل بالجميع بسبب المقتلة اللبنانية، واستشراف المملكة والوسطاء وجود فرصة، حملت السعودية نواب لبنان (1989) المجدَّد لهم منذ انتخابات العام 1972 إلى مدينة الطائف، وقال لهم سعود الفيصل: في يدكم إنقاذ بلادكم من الهلاك بعد خمسة عشر عاماً من الاقتتال والدمار، لن تخرجوا من هنا إلاّ بالتصالح على دستورٍ جديد.

في الآثار النبويّة مَثَلٌ ضربه النبي (ص) للإصرار على الإنقاذ عندما قال لمعاندي دعوته ما معناه أنّه يريد قيادتهم إلى الجنّة ولو بالسلاسل، أي غصباً عنهم. فالمسلمون كانوا يريدون السلام بأيّ ثمنٍ لكنّ المسلَّحين من بينهم كانوا يريدون تغييراً يُشركهم في السلطة التي قاتلوا للوصول إليها.

أمّا المسيحيون فكانوا سيّئي المزاج بشكلٍ عام. وصحيح أنّ البطريرك صفير كان مع “اتفاق الضرورة”، كما سمّاه. لكنّ الجنرال عون، المعتصم بالقصر الجمهوري حين إقرار الاتفاق، كان ضدّ أيّ شيء يحول دون وصوله للرئاسة. لذلك وقف بعسكره ضدّ الاتفاق، وهجم على البطريرك، وحاول منع النواب، العائدين من الطائف بعد الاتفاق، من انتخاب رئيسٍ للجمهورية. وما أمكن الخلاص من تعطيلات عون (مؤقّتاً كما تبيّن فيما بعد) إلّا بتدخّل القوات السورية التي طردته من القصر فلجأ إلى السفارة الفرنسية، ثمّ غادر إلى المنفى في باريس.

 

لماذا هذه التفاصيل؟

لأنّه لا ينبغي الحكم على الاتفاق وعلى السياسات العربية (وليس السورية) تجاه لبنان، بمنظار العهد العوني. فقد أنهى اتفاق الطائف الحرب، وأعاد المؤسّسات الدستورية إلى العمل. بيد أنّ فاعليّته تأثّرت باستمرار الوجود العسكري والمخابراتي السوري الذي نجح في إيقاف تطبيق بعض بنوده. في حين شكَّل الإعراض/الاعتراض المسيحي عامِلَ عرقلةٍ في تطبيق بنودٍ أُخرى مثل إنهاء الطائفية السياسية، وإنشاء مجلس للشيوخ، وإحلال اللامركزية، ووضع قانون مستنير للانتخابات. كانت مشكلة بعض المسيحيين مع الطائف أنّه قلّص من صلاحيات رئيس الجمهورية، وجعل السلطة التنفيذية في يد مجلس الوزراء مجتمعاً، وترك للرئيس مهمّات حماية الدستور وعقد المعاهدات وحقّ الفيتو على قرارات الحكومة ومجلس النواب، وهي صلاحيّات شاسعة.

عهد التخريب

لم يستطع الرئيس رفيق الحريري، الذي أعاد الإعمار ونهض بالاقتصاد، وأحيا المؤسّسات، وأعاد العرب والعالم إلى لبنان، أن يُرضي السوريّين ولا المسيحيّين. ولذلك لم يتمكن من التقدّم في تطبيق بنود اتفاق الطائف في الوقت الذي كسب فيه مساحةً للسلم الداخلي وتهدئة النفوس.

أمّا بعد استشهاده (2005) وعلى الرغم من النهوض الوطني الشامل ومن ضمن طموحاته إكمال تطبيق الطائف، ما عاد ذلك ممكناً بعد اتفاق زعيم حزب السلاح مع الجنرال عون العائد من المنفى على التحالف (2006) وتبادل المصالح: يوافق الجنرال على تغطية حزب الله وسلاحه، وبخاصّةٍ إذا صار رئيساً، في مقابل مساعدته في نقض الطائف، لاستعادة صلاحيات الرئاسة المزعومة التي أكل عليها الدهر وشرب.

هكذا يمكن القول إنّ هذا المسار التخريبيّ للدولة وسلطاتها وعيش المواطنين المشترك قد بلغ ذروته بين عامَيْ 2008 (احتلال بيروت من جانب الحزب المسلّح) و2016 عندما صار عون رئيساً بالفعل، وهو الذي تنتهي ولايته الآن بعدما أبدع الطرفان، ومَن تحالف معهما أو سكت عنهما، في تخريب الدولة والوطن وحياة المواطنين وعيشهم.

ماذا فعل العهد الزاهر ليس طوال ستّ سنوات، بل منذ دخوله إلى الساحة السياسية ومناصب الدولة والوزارات بعد العام 2008؟

لن نتحدّث عن الفساد الفظيع والسطوة على إدارات الدولة والإيغال في نهب المال العامّ، والإساءة إلى علاقات لبنان مع العرب والعالم، لأنّ ذلك كلّه ظاهر على كلّ شفةٍ ولسان وبالوثائق. بل إنّه الجزء المفضوح في عمليات تخريب حياة المواطنين وعيشهم، وهدم المؤسّسات التي بناها الآباء والأجداد، والاستيلاء من أجل الفساد على وزارات بعينها ما تزال بيد أتباع عون حتى اليوم، وإلى ذلك المرافق والإدارات والمناصب العامّة.

منذ اليوم الأوّل لرئاسته أصرَّ عون على أن يرأس دائماً مجلس الوزراء وأن لا قرار بدون إرادته، بل بعد العام 2011 صار ثلثا مجلس الوزراء بيده ويد حزب السلاح وحلفائهما. وفي أيّ وقت، وفي كلّ وقت كان الصوت عالياً من جانبه ومن جانب أعوانه ومستشاريه في ضرورة إسقاط الدستور أو تعديله لصالح الرئيس. وعندما وجد أنّه لا يمكن جمع أكثرية مجلس النواب من أجل ذلك، ما تردّد في الخروج في كلّ مناسبة وبدون مناسبة على الدستور وعلى القوانين. وقد سمعت أحد مستشاريه وكان وزيراً للعدل في محاضرة بالجامعة اليسوعية عام 2017 يقول: “الطائف ضروريّ تغييره، وإن لم يمكن بالمسار المشروع فمن طريق الحيلة والتأويل. وعندما يتعذّر ذلك نخرج عليه ببساطة وليجرؤ أحدٌ على الاعتراض”.
التعطيل العوني منذ الثمانينات

منذ أواخر ثمانينيّات القرن الماضي، وبسبب عرقلاتٍ من جانب عون وأنصاره، كان هناك تعطيل في رئاسة الجمهورية (حالة فراغ) لأكثر من خمس سنوات انتظاراً للقائد المنقذ. حتّى في العهد الميمون زاد التعطيل في تشكيل الحكومات (كما هو الحال الآن) لأكثر من سنتين. وما زاد ذلك رئاسة الجمهورية قوّةً ولا شعبيّة. ثمّ إنّ سمعة العهد لدى المسيحيين شديدة القتامة. وما تعلّم المسيحيون كثيراً من درس بشير الجميّل، لكنّهم تعلَّموا بعد التجارب المرّة مع عون فيما نأمل ونرجو. ولنستمع إلى خطابات البطريرك الراعي منذ عامين وأكثر.

بيد أنّ تسلّقات الرجل وصهره،التي وصفنا بعضها، ضربت السلطة التنفيذية هيبةً وصلاحيّات. وتتحمّل جزءاً من المسؤولية النخبةُ السياسيةُ الإسلاميةُ السنّيةُ والشيعية. والسُنّة بالطبع أكثر من الشيعة لأنّ واحداً منهم هو الذي يتولّى منصب رئيس الحكومة. وعندما كنّا نسأل طوال السنوات الماضية: لماذا هذا التهاون بحقّ الوطن والمواطنين؟ كان البعض يجيب بالصعوبات العملية: لا يمكن تشكيل حكومة بدون رضا الرئيس، ورضا الرئيس انتحار لأنّه يريد أخذ كلّ شيء، وبعد مقاومة أشهر يُعطى كلّ شيء، ثمّ لا تتيسّر أعمال الحكومة إلا بإطاعة أوامر جبران باسيل! أمّا البعض الآخر فيقول: لا تجد سياسيّاً مسيحياً معتبَراً مستعدّاً لرفع الصوت من أجل الطائف والدستور، وأمّا الشيعة فقيَّدهم حسن نصر الله بالتحالف مع عون، بينما يفكّر البعض الآخر بضرورة تغيير الطائف لإعطاء الطائفة الغالبة موقعاً متميّزاً. ماذا تريدنا أن نعمل؟ يدٌ واحدةٌ لا تصفّق.

ما الموقف الآن؟

ليست للدستور شعبية معتبَرة، وسمعته سلبيّة مع أنّه لم يطبَّق أو أنّه لم يُجرَّبْ. ولذلك تجد هؤلاء “النوابت” الذين يسمّون أنفسهم “تغييريّين”، ضدّ الطائف. مع أنّهم يعلمون أنّهم يسُرّون بذلك عوناً وصهره. وقد استغربت عدم الخبرة التي بدا عليها الرئيس الفرنسي عندما سايَر أولئك الذين يدعون إلى تغيير النظام. والفرنسيون هم الذين نشروا في الأيام القليلة الماضية إحصاءً يُبيّن أنّ عدد كلّ المسيحيين في لبنان لا يزيد عن ثلاثين في المئة. ولهذا ستكون المطالبة بحقوق طائفية من دون طائل. أمّا الشباب الذين يدّعون المطالبة بالتغيير الراديكالي والعلمانية الكاملة فسخفاء. وهم من حيث يقصدون أو لا يقصدون يريدون إلغاء المسيحيين من المعادلة السياسية، مرّة مع السفيرة السويسرية، ومرّة مع السفيرة الفرنسية. كلّها طبخات محترقة ولا تنفع، وتضرّ أكثر ما تضرّ بالمسيحيّين.

لدينا من الأيام القليلة الماضية حَدَثان لصالح الطائف:

– أوّلهما تصريح الرئيس نبيه برّي رئيس مجلس النواب أنّه يريد رئيساً للبنان يحافظ على الطائف والدستور. لقد تأخّر الأستاذ كثيراً، لكنْ أن تأتي متأخّراً خير من أن لا تأتي أبداً.

– وثاني الحدثين دعوة سفير المملكة العربية السعودية بلبنان إلى الاحتفاء بالطائف في 5/11/2022. والمملكة هي التي حفظت وجود لبنان وعيشه المشترك بالطائف، وفي الدعوة وعدٌ باستمرار الاهتمام العربي بلبنان بعد الطائف كما كان قبله.

التجارب المؤْسية لثلاثة وثلاثين عاماً بعد الطائف، تفيد أنّ اتفاق الطائف هو من حيث الحساسية والأهميّة مثل الميزان المتعادل الكفّتين. وقد تعطّل حيناً وداخله الاختلال أحياناً، وقد تسبّب الاختلال في الكفّتين في إحداث شروخٍ تبدأ ولا تنتهي. نحن في آخر أعمار جيل الطائف، وما يزال على هذا الجيل، وبينهم سياسيون فقهاء دستوريون، واجب عرض الطائف والدستور ووثيقة الوفاق الوطني على الجمهور بكلّ السبل، وأكثر ممّا فعلنا جميعاً من قبل. فلا يكفي أن يكون رئيس الجمهورية الجديد مقتنعاً بالطائف ويبقى ذلك مضمراً، بل ينبغي أن يتعهّد في قَسَمه بالحفاظ على الدستور وتطبيقه. ويجب من أجل المصلحة الوطنية أن يتمكّن عقلاؤنا من الاتفاق على ذلك مع الرئيس المرتجى.
اتّفاق الترسيم: الجنازة حامية

أنا أعلم كما يعلم سائر المراقبين أنّ المشكلة ليست حالياً في الدستور، بل في السلاح والفساد والاختلال في العلاقات الدولية والإقليمية. لكنّ هذا الميزان الذي أُقيمت كفّتاه بالإجماع ليبقى العيش الوطني والسلم والدولة، لا يمكن الإخلال به أو نسلِّم باستمرار العيش تحت سطوة المسلّحين وراديكاليّي الطائفية الحاقدة والتغييريّين الحمقى!

 

 

رضوان السيد – أساس ميديا