“لو كنت أعلم”.. لن تتكرّر

غداة الرفض الإسرائيلي للملاحظات اللبنانية على مسوّدة اتّفاق ترسيم الحدود البحرية، قفز إلى المشهد السياسي في لبنان ، سؤال مقلق: هل تندلع الحرب؟

السؤال لم يكن مقصوراُ على لبنان وحده، فمتابعة المشهد الإسرائيلي تعكس هلعاً في تل أبيب من تصعيد حكومتهم. لكن بين لبنان وإسرائيل تختلف المعايير لجهة القرار بالحرب من عدمه. ذلك أن الدولة العبرية “ليس لديها سياسة خارجية، بل سياسة داخلية فقط”، على ما قال ذات مرّة هنري كسينجر، أحد أشهر وزراء الخارجية الأميركيّين في القرن الماضي.
سياسات انتخابيّة

لم ترفض الحكومة العبريّة الاتّفاق، بل فقط التعديلات التي أرادها الجانب اللبناني على المسوّدة التي أرسلها الوسيط الأميركي آموس هوكستين. وهي تعديلات يغلب عليها طابع الشكليّات، ولا يمكنها أنْ تشكّل بأيّ حال من الأحوال عائقاً أمام إتمام الصفقة. فليست مساحة الخمسة كيلومترات مربّعة في البحر التي تريد إسرائيل إبقائها تحت هيمنتها هي التي تضمن أمنها، أو بإمكانها أنْ تكون عائقاً أمام تحرّكات حزب الله. فالأخير يراكم ترسانته الحربية والصاروخية جنوب الليطاني منذ سنوات، على الرغم من الحظر الذي يفرضه القرار الأممي 1701، وذلك تحت مرأى ومسمع الجيش الإسرائيلي، وأيضاً قوّات اليونيفيل. وبالتأكيد لنْ تقف حائلاً أمام المسيَّرات التي يملكها الحزب، والتي أرسل منها ثلاثاً في آب الماضي نحو “كاريش”، ويقول إنّه يملك منها أنواعاً وأشكالاً كثيرة ومتطوّرة. بالإضافة إلى أنّ وزارة الطاقة الإسرائيلية أوشكت على إبرام اتّفاق مع شركة “توتال” الفرنسية حول حصّتها الماليّة من حقل قانا، التي تشير المعلومات إلى أنّها ستكون 17% من الأرباح.

لذلك يعتبر المحلّل السياسي خلدون الشريف في حديث لـ “أساس” أنّ رئيس الحكومة الإسرائيلية “يحاول أن يصعّد سياسياً لغايات انتخابية بحتة، لكن فعليّاً لم يتغيّر شيء، فمسار الاتّفاق ما يزال مستمرّاً”. ويتّفق معه الخبير العسكري والعميد المتقاعد نزار عبد القادر، الذي يعتبر أنّ “مواقف القادة الإسرائيليّين هي دعاية انتخابية في مواجهة الضغوط التي يتعرّضون لها من قِبل المعارضة”.

بدوره يضع الخبير العسكري العميد خالد حمادة الموقف الإسرائيلي في خانة “الشعبويّة المفرطة التي ينزلق إليها السياسيون قبيل الانتخابات مثلما هو الحال في لبنان”. فلابيد يعاني من تراجع شعبية تحالفه تحت وطأة الضربات القاسية التي وجّهها إليه زعيم معسكر المعارضة بنيامين نتانياهو، مستغلّاً في ذلك الاتّفاق نفسه، وهذا ما قد يمنحه فوزاً حاسماً في انتخابات الكنيست مطلع الشهر المقبل حسبما تشير بعض استطلاعات الرأي.

لا حرب والحزب لن يصعّد

مع أنّ المآزق السياسية الداخلية كان لها تأثير وازن في الدفع نحو الحروب والغزوات الإسرائيلية، مثل عناقيد الغضب (1996)، وحرب تمّوز (2006)، إلّا أنّ التسخين الذي قام به لابيد ووزير الدفاع بيني غانتس لا يعدو كونه تهويلاً، فالواقع اليوم مختلف تماماً. وهذا ما يتبنّاه الجنرال عبد القادر في حديثه لـ”أساس”، إذ يعتبر أنّ “هناك حالة تهويل من الجانب الإسرائيلي كما حزب الله، لكنّ الطرفين ليس لديهما الاستعداد لتحمّل التبعات الكارثية لمغامرة الحرب”.
وفي حين يستبعد الشريف خيار الحرب لأنّ “حزب الله يدرك تماماً المقاصد الانتخابية الكامنة في الموقف الإسرائيلي، وهو لا يرغب ولا يريد حصول حرب في ظلّ الأزمة الاقتصادية والمعيشية الخانقة التي تعصف بجمهوره كما بكلّ اللبنانيّين”، لافتاً إلى أنّ “الجبهة الخلفيّة للحزب، أو هامش الأمان بالنسبة إليه لم يعد متاحاً كما في السابق”. ويقصد بذلك سوريا التي لم يعُد بإمكانها استضافة جمهور الحزب كما فعلت سابقاً عام 2006، وهي التي تمتنع عن إعادة النازحين إلى ديارهم وتعجز عن تقديم الخدمات الأساسية لشعبها، وكذلك المدن اللبنانية التي ليست في حال أفضل.

أمّا العميد حمادة فيرى أنّ “حزب الله ليس في وارد التصعيد، لأنّ ذلك سيكون بمنزلة انتحار له ولإيران، ولا سيّما في ظلّ الأزمة الأخيرة التي يعاني منها النظام الإيراني”.

ويتقاطع الشريف مع تقدير حمادة ويرى أنّ “الحرب خيار مستبعَد لدى الكيان العبري”، ودليله على ذلك “اكتفاء جيشه بالمناوشات المحدودة في غزّة والضفة الغربية من دون توسيع بيكار المواجهات”.

الاتّفاق مصلحة للجميع ولكن

لا مصلحة لأحد حتى الساعة في حصول حرب ستكون لها تداعيات كارثية على لبنان والكيان الصهيوني والمنطقة برمّتها. وإذا كان للبنان مصلحة في إنجاز اتّفاق الترسيم من أجل البدء جدّيّاً بمسار التنقيب عن الغاز، الذي قد يفتح باباً نحو الخروج من قعر الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها البلاد، فإنّ للكيان العبري مصالح أكبر وأعظم تدفع نحو إبرام الاتّفاق. فإسرائيل حسب الشريف “تستعجل استخراج الغاز وبيعه من أجل دخول السوق العالمية. وإلى ذلك لا يحتمل الوضع المالي والاقتصادي العالمي وإمدادات الطاقة أيّ حرب جديدة غير الحرب الروسية الأوكرانية، التي بلغت مستويات خطيرة جدّاً”. بمعنى آخر، إسرائيل لن تضحّي بخططها، التي ترمي من خلالها إلى التحوّل قطباً عالميّاً في قطاع الطاقة مستغلّة تعاظم الحاجة الأوروبية إلى الغاز، من أجل بضعة مطالب لبنانية بسيطة لن تقدّم ولن تؤخّر.

بيد أنّ العميد عبد القادر لا يُخفي وجود إمكانية لتأجيل توقيع الاتّفاق إلى ما بعد الانتخابات التشريعية في إسرائيل، فـ”الإدارة الأميركية الراهنة تفضّل الفريق الحاكم حاليّاً في إسرائيل، وفي المقابل يقوم نتانياهو باستغلال الترسيم والقضايا الأمنيّة لتحريض الشعب ضدّ الحكم. وهذا ما قد يدفع بالولايات المتّحدة إلى تأجيل الترسيم إلى ما بعد الانتخابات، خاصّة أنّها صعبة ومعقّدة وستُحسَم بفارق أصوات ضئيلة، من دون إغفال أنّ نتانياهو هو ضدّ اتفاق الترسيم بصيغته الحالية”.
في المقابل، يذهب العميد حمادة في حديثه لـ”أساس” أبعد من ذلك، إذ يعتبر أنّه “لا يمكن أنْ يمرّ اتفاق من هذا النوع إلّا بعد الانتخابات التشريعية الإسرائيلية. فإذا كان الأميركيون جدّيّين في إنجاز الاتّفاق، وهم كذلك، فإنّهم بحاجة إلى تمرير الاتّفاق بعد الانتخابات وليس قبلها، كي يكون محميّاً بموافقة الكنيست الجديد. ولذلك لن يُعقَد اتّفاق قبل الانتخابات التشريعية في إسرائيل، وحتّى قبل الانتخابات النصفية في أميركا، لأنّها هي التي ستنتج أكثريّة داعمة لهذا الاتّفاق”.

ومع أنّه يبقى ثمّة تخوّف وتحوّط من “لو كنت أعلم” ثانية، حسب الجنرال عبد القادر، ولا سيّما أنّ حزب الله اعتاد التحرّك وفق المصالح الإيرانية لا اللبنانية، إلّا أنّ عبد القادر وحمادة والشريف يُجمعون على أنّ اتّفاق الترسيم حاصل لا محالة وإنْ تأخّر قليلاً. وحسب حمادة فإنّ “ما يحصل اليوم هو لهو في الوقت الضائع قبل إنجاز الاتّفاق”.

 

سامر زريق – أساس ميديا