عون خارج التاريخ

ها هو وقد صدق وعده. “سأسلّم من بعدي لبنانَ أفضل”، قال. أحسنت يا ميشال عون، هكذا “حاف”، بلا ألقاب دمّر الهوس بها البلاد وأهلها. صدقت حقّاً. لبنان اليوم، رغم الأهوال التي حلّت عليه، أفضل، فقط لأنّك تغادر قصر بعبدا. أيّ لبنان من دونك، هو أفضل من أفضل لبنان معك.

لا يبدأ الفراغ اليوم. فالفراغ هو رئاستك، بسنواتها الستّ. نصف عقد فرَغ حتى من الحدود الدنيا من قيم المواطنة، وأخلاق القيادة، وضمير المسؤوليّة، وحسن النيّة، وصفاء الطويّة، وطيب السريرة. لم يكن الانهيار قدراً، ولا الانفجار قدراً، ولا جهنّم قدراً. إنّها مآلات مِن صنعك أوّلاً، ومِن صنع مَن أتوا بك بعد اختطاف البلاد سنتين ونصف سنة، فتحوا لك أبواب القصر بعدها بقوّة الكسر والخلع.

لبنان أفضل اليوم، لأنّك لست في رأس هرم قيادته إلى جحيم أشدّ سعيراً، وإن كانت مآثرك في النكد والنحس ستستمرّ من حيث ستدير المزيد من تعفين الجمهورية والدستور والعلاقات السويّة بين اللبنانيين.

لبنان بعدك، وبمجرّد أنّه بعدك، هو أفضل من لبنان معك. أتعلم أنّه بك وبرئاستك يُقاس القعر الرئاسيّ؟ “مِن ميشال عون وطلوع”، سيُقال في ترتيب الرئاسات.. فلا دون بعدك.. ولا تحت تحتك.. هاوية كتلك التي تُخلَق من “تحديق بئر بالسماء”، على حدّ الوصف العبقري للبرتغالي فيرناندو بيساو.

لن يُشمَل اسمك في لائحة أسوأ الرئاسات. رئاستك، في السوء، معيار فرادة لا مقارنة. ثمّة أسوأ الرئاسات وترتيبها، وأفضل الرئاسات وترتيبها. ثمّ أنتَ. عهد ميشال عون. سلّمٌ نزلناه جحيماً جحيماً، إلى القعر المفرد.

مع ذلك، لا يكفي خروجك من بعبدا بموجب الدستور الذي أمعنت في احتقاره وتجاوزه، فكان ألدّ خصومك، وسيظلّ. لا يكفي خروجك من قصر بعبدا إلى قصر الرابية، لينعم لبنان ببداية جديدة.. ثمّة عمل كثير ينبغي أن يُعمل لإخراجك من التاريخ.

نعم، نحتاج إلى أن نتذكّر لنتعلّم. ولكنّنا أحوج إلى أن ننسى لتتسنّى لنا الحياة.

لن يكون لك في تاريخ لبنان إلا سطر واحد.. نجونا من الطاعون.. يا لها من عبارة حمّالة أوجه. فكلّ خراب حلّ بنا، حتى صرنا نهجس بالآتي بعد كلّ خراب.. مزاحاً وهذراً، توقّع بعضنا أن يلحقنا الطاعون بعد الكوليرا، في الميل الأخير من درب جهنّم.. لكنّنا نجونا… سطر واحد.. في عهد ميشال عون نجونا من الطاعون..

رئاستك هي ما لا ينبغي أن تكون عليه الرئاسات. هذا درس عهدك. وقيم قيادتك هي ما ينبغي أن لا يستلهمه القادة. هذا درس سيرتك. وكفى الله المؤمنين شرّ “التاريخ”. اللبنانيون أحوج ما يكونون إلى نسيان ميشال عون. وتاريخهم أكبر وأثرى من أن تُحجز فيه صفحات لرجل من طينته ولتجربة من نوع ما “علمنا وذقنا”!
الفرح ليس حكراً على العونيّين!

لن يخرج ميشال عون من بعبدا. بل سيخرج من التاريخ الذي لطالما حلم به وبأن ينصفه ويعطيه مقعداً في صفوفه الأماميّة. لكنّ الأمنيات وحدها، أو الانطباعات المتورّمة عن الذات، لا تكفي لتسديد ثمن بطاقة العبور إلى التاريخ.

لا تخرج اليوم من بعبدا. ستخرج من التاريخ.

 

نديم قطيش – أساس ميديا