عون – بري والكيمياء المفقودة حتى نهاية العهد

لن يكون خروج رئيس الجمهورية العماد ميشال عون من قصر بعبدا مثل دخوله اليه، ولن يوازي الوداع الشعبي الذي حضّره له مناصروه الى مقره القديم – الجديد في الرابية حجم الارتياح الذي يملأ قلوباً ضاقت بأثقال الأعوام الستة المنصرمة، وهي لا تقتصر على شريحة واسعة من اللبنانيين الرازحين تحت ضغط أسوأ ازمة اقتصادية ومالية واجتماعية شهدتها البلاد، وإنما تشمل ايضاً شريحة مماثلة من القوى السياسية التي استهدفتها السياسات العدائية الممنهجة للعهد، من الخصوم كما من الحلفاء، حتى بات يمكن القول وبكثير من الثقة ان هذا العهد تجاوز الرقم القياسي في تثبيت حالات عِداء وخصام على الساحة المحلية كما مع الخارج.

واذا كانت تلك العدائية أخرجت الرئيس سعد الحريري من الحياة السياسية، ودفعت الزعيم الدرزي وليد جنبلاط الى الانكفاء، ورئيس حزب “القوات اللبنانية” الى التحصن في معراب، فهي حتماً لم تنجح في ليّ ذراع رئيس المجلس النيابي نبيه بري الذي بقي عصياً على العهد. ذلك ان الحصانة التي استمدها عون وتياره السياسي من تحالفه الوثيق مع “حزب الله” لم تفلح امام الشريك الشيعي الأساسي للحزب في ثنائية تجاوزت الحسابات الضيقة امام استراتيجية المشروع الأكبر وثوابته.

لم يغفر عون لبري جلجلة انتخابه رئيساً بثلاث دورات متتالية، رغم دخوله ساحة النجمة المرشح الاقوى والاوحد بتسوية مدعّمة من سعد الحريري وسمير جعجع. ولم تكن تلك أولى محطات الاختلاف بين الرجلين، بل هي تعود الى العام 2009، تاريخ الانتخابات النيابية التي خاضها عون تحت شعار استعادة التمثيل المسيحي.

اداء عون الرئيس لم يختلف عن اداء عون الجنرال في علاقته برئيس المجلس، وإن هو اعتمد الدستور والصلاحيات المنوطة بالرئيس وسيلة لتذكير الاخير بعجزه عن الاستئثار بالسلطة التشريعية التي يفاخر بري بأن المجلس الذي يتولى رئاسته منذ التسعينات هو سيد نفسه.
يتمتع رئيس الجمهورية بامتيازين من شأن اللجوء الى ممارستهما “التمريك” على رئيس المجلس: رد القوانين المصادق عليها في الهيئة العامة، وفق المادة 57 من الدستور التي نصت على حق رئيس الجمهورية بعد اطلاع مجلس الوزراء، “طلب اعادة النظر في القانون مرة واحدة ضمن المهلة المحددة لإصداره ولا يجوز ان يُرفض طلبه. وعندما يستعمل الرئيس حقه هذا يصبح في حِلّ من إصدار القانون الى ان يوافق عليه المجلس بعد مناقشة اخرى في شأنه وإقراره بالغالبية المطلقة من مجموع الأعضاء الذين يؤلفون المجلس قانوناً”. وهذا ما حصل اخيراً مع قانون تعديل السرية المصرفية. اما الامتياز الثاني فيتجلى في صلاحية الرئيس بتوجيه الاسئلة عملاً بالمادة 53 من الدستور، والمادة 145 من النظام الداخلي للمجلس.
لم يقصّر عون في ممارسة صلاحياته في هذا المجال. وأمكن احصاء 5 رسائل خاطب فيها عون مجلس النواب، الأولى في تموز 2018 طالب فيها بإعادة النظر بمضمون المادة 49 من قانون الموازنة العامة المتعلقة بمنح إقامة لكل عربي او اجنبي يشتري وحدة سكنية في لبنان. والثانية في تموز 2019 وتضمنت طلباً لتفسيرالمادة 95 من الدستور، وجرى تأجيل موعد جلسة مناقشتها مرتين ولم يتمّ تحديد موعد جديد لها.

أما الرسالة الثالثة فكانت بتاريخ 24/11/2020 وتضمنت طلباً لتفسير “التدقيق الجنائي”، وقد ناقشها المجلس وجاءت نتيجتها عكسية لما كان يطمح اليه عون، اذ اتخذ بشأنها القرار بأن يشمل التدقيق الجنائي كل الوزارات والإدارات والمؤسسات العامة بالتوازي، وليس فقط مصرف لبنان.

الرسالة الرئاسية الرابعة في أيار 2021 حول تأخر الرئيس المكلف (سعد الحريري) في تأليف الحكومة، واعتُبرت في حينه سابقة لجهة طبيعة الموضوع الذي تتضمنه وهو يتعلق بظروف تشكيل الحكومة الجديدة والشكوى من اداء الرئيس المكلف بما يتعلق بالتكليف النيابي الممنوح له.

وجاء رد المجلس بالتأكيد على اهمية التأليف، فيما ذهبت الرسالة الخامسة في اتجاه طلب بحث تداعيات قرار حاكم المصرف المركزي وقف الدعم.

لم تؤدِّ أيّ من الرسائل المشار اليها الى أي تغيير في قرارات البرلمان أو توجهاته، بل دفعت الى مزيد من التأكيد على تلك القرارات. وكان واضحاً ان الصراع القائم بين عون وبري أملى تلك القرارات، التي غالباً ما ترافقت مع حملات عالية النبرة بين الطرفين، إن لم تكن على مستوييهما فعلى مستوى مَن يمثلهما. وكان للنائب جبران باسيل دور كبير في التعبير عن ذلك الصراع ولا سيما بعد تسريب فيديو له يصف بري بـ”البلطجي”، في موسم انتخابي حامٍ.
لم تتسم العلاقة يوماً بين الرجلين بالكيمياء. فكانت الاتهامات المتبادلة بينهما سيدة الموقف في تسعير الخلافات. وغالباً ما سُخِّرَت تلك الاتهامات في إطار التجييش الطائفي والحقن الشعبي ولا سيما في المواسم الانتخابية، كما كان لها تأثيرها السيىء والسلبي على إدارة الملفات المهمة ومعالجتها، وخصوصا ملفّي الكهرباء والنفط.

سحب عون ملف الترسيم من حضن بري، وفي ظنه انه نجح ولا سيما بعد مشهدية احتفالية التوقيع في بعبدا، وتأليف وفد مدني الى الناقورة رغم اعتبار عون ان الاتفاق تقني.

نشوة الانتصار بالترسيم أنست الرئيس وفريقه انه كان وحيداً في الصورة الإعلامية رغم ان ملائكة بري كانوا حاضرين في كل خطوة من خطوات الاتفاق. وهذا الامر يجعل العهد في قمة المسؤولية، وحيداً في مواجهة أي تبعات سلبية قد تستجد في مراحل التنفيذ.

اما في الملف الداخلي، رئاسياً وحكومياً، فيخرج عون مسلّماً القصر للفراغ، تماماً كما الرئاستين الاولى والثالثة، فيما يتفرغ رئيس السلطة الثانية لإدارة حوار حول الرئاسة الشاغرة بخروج عون، (وأولى الجلسات مرجحة الثلثاء المقبل)، ومفتاح الحل والربط في يده، مقابل كتلة عونية لم يعد في يدها إلا المعارضة والاستمرار في ترداد الشعار الدائم “ما خلّونا”، وآخر المواقف في هذا الاتجاه عبٓر عنها باسيل من بكركي عندما اتهم الرئيس المكلف نجيب ميقاتي وبدعم من بري بوضع اليد على الرئاسة.

 

سابين عويس – النهار