عندما قررت واشنطن أُنجِز الترسيم… ماذا عن الرئيس؟

لم تكد الأجواء الإيجابية المرافقة لملف الترسيم ترخي بظلالها على المشهد الداخلي، بدفع واضح من فريق العهد الساعي وراء انجاز يختم به أعوامه الستة العجاف، حتى تعثرت تلك الأجواء، بسبب فرملة إسرائيلية، على خلفية اعتراض على التعديلات التي اقترحها الرد اللبناني، لكنها ما لبثت ان عادت مع تسلم لبنان ليل اول من أمس الصيغة النهائية كما عدّلها الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين وسلمها الى نائب رئيس مجلس النواب الياس بو صعب الذي سلمها بدوره الى الرؤساء لتكون بذلك آخر حلقات التفاوض قبل محطة التوقيع.

إذاً هي ساعات قليلة ويتبين فيها الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وصحة الإيجابية التي برزت في الآونة الاخيرة حيال التوقيع القريب للاتفاق، كما لجهة الكشف عن مندرجاته، وما اذا كان يصون حقوق لبنان في ثروته النفطية وفي ترسيم حدوده البحرية أم لا. ذلك ان الامرين المشار إليهما لا يزالان غامضين امام اللبنانيين، طالما ان حلقة ضيقة جداً تتولى التفاوض، وتعتصم بالصمت بذريعة عدم الإفصاح قبل التوقيع لئلا تضيع الحقوق.

واذا كان الاهتمام ينصبّ حالياً في شكل كثيف على تحديد موعد التوقيع والكشف عن الوثيقة التي ستُدخل لبنان نادي الدول النفطية، وتعده بالثروة والبحبوحة بعد سنوات من القلة والفقر والذل والظلمة، فإن الحديث عن الايجابيات يغلب على أي حديث آخر، أو عن الاحتمالات الاخرى التي قد تستجد في ما لو سقط الاتفاق، أو فرٓط بحقوق لبنان وثروته النفطية، خصوصاً أن ثمة نقاطا فيه ربما تكون قابلة للاستنساب، او رهينة الصدقية الإسرائيلية في الالتزام بالبنود وتنفيذها وعدم القفز فوقها او إطاحتها، انطلاقاً من معادلة الانتهاك التي لم تقصّر يوماً بممارستها تجاه لبنان وسيادته، ما قد يهدد البلاد بالانزلاق نحو المواجهة او حتى الحرب، وسط استمرار لغة التهديد على ضفتي تل ابيب و”حزب الله”.

الاكيد، ان توقيع الترسيم، بقطع النظر عمن سيحصد رصيد الإنجاز، سيحصل في وقت قريب جداً، وليس في المعلومات ما يؤشر الى انه معرّض للسقوط رغم التهديدات والسقوف العالية التي رافقته، مدفوعاً بقرار أميركي حاسم في هذا الاتجاه، ترجمته الجهود التي بذلها الوسيط الأميركي سعياً لتذليل كل العقبات، بما يترجم من دون أي لَبْس ان القرار الأميركي واضح لجهة قفل هذا الملف، واتاحة الفرصة امام اسرائيل للإفادة من غازها. وبات اكيداً انه كان لأزمة الغاز العالمية دورها المؤثر والفعال في تحقيق المعجزة، بحيث ان ما استحال التوافق عليه سابقاً صار واقعاً اليوم.

بات واضحاً ان التوقيع وبقطع النظر عن موعده، سيرخي اجواء إيجابية في البلاد، على قاعدة انه سيفضي الى قفل ملف شائك من النزاع مع اسرائيل، وسيسحب فتيل التفجير، اذا ما صدق أبطاله بتنفيذ التزاماتهم وعدم القفز فوقها.

الواضح ايضاً ان الأميركيين جديون في حسم هذا الملف. وهم بذلك، ورغم انحيازهم لاسرائيل، ساعدوا لبنان على تحصيل الحد المعقول من حقوقه، كاشفين بذلك الادعاءات الإسرائيلية الكاذبة على مدى اكثر من عقد. ذلك ان اهمية الترسيم لا تقف عند مسألة الثروة النفطية، وإنما الأهم ايضاً انه أنهى عقوداً من النزاع حول حدود لبنان، وانتزع اعترافا إسرائيلياً ودولياً بها، فساهم في اعادة السيادة اللبنانية على الحدود البحرية، وفق ما يقول احد المتابعين عن كثب لمفاوضات الترسيم، مضيفاً ان الترسيم حدد الحدود وحسمها، مستنداً الى اتفاق الإطار الذي سيكون ملحقاً بالاتفاق. ولعل هذا ما يبرر بالنسبة للمصدر عينه التأخير، لأن لكل كلمة في الاتفاق وقعها، ولا تقبل أي تأويل. وفي رأيه ان الساعات المقبلة ستحمل تطوراً لناحية اعلان لبنان، كما اسرائيل عن الصيغة النهائية، تمهيداً لتوقيع كل طرف عليها على حدة.

وقد عبّر عن هذا التوجه بيان رئاسة الجمهورية أمس الذي رأى ان
الصيغة النهائية مرضية للبنان وتلبي مطالبه، فيما كشف بو صعب ان الصيغة باتت في عهدة الرئاسة التي يعود لها ان تعلن الامر. اما في اسرائيل، فأعلن رئيس وزرائها انه تم التوصل الى اتفاق تاريخي مع لبنان وان مجلس الوزراء الأمني الإسرائيلي سيجتمع اليوم ويعقبه اجتماع الحكومة للموافقة على الاتفاق.

في آلية المسار المرتقب في الأيام المقبلة التي يمكن ان تُختصر ببضعة ايام أو تمتد لغاية اسبوع او عشرة ايام، ان لبنان يعلن قبوله بالصيغة ويرسل تصحيحاً للإحداثيات المتصلة بالحدود كما تم الاتفاق عليها، بالتزامن مع قيام اسرائيل بتصحيح احداثياتها ايضاً وتودع الإحداثيات الجديدة بموجب الاتفاق لدى الامم المتحدة ولدى واشنطن التي قامت بالوساطة ليتم بعد ذلك الاتفاق على اجتماع في الناقورة لتتويج الاتفاق.

إذاً، أقفل ملف الترسيم، وبدأت مرحلة التنقيب والاستخراج، وأولى بوادرها حضّ لبنان الرسمي شركة “توتال” الفرنسية المكلفة هذا الامر على الاستعجال في بدء العمل. وممثلو الشركة في لبنان يجولون على المسؤولين بالتزامن مع انجاز الصيغة النهائية.

لا شك في ان توقيع الاتفاق سيسهم في اعادة بعض من الثقة والصدقية المفقودتين بفعل الممارسات العشوائية التي سادت في الأعوام القليلة الماضية، الى بلد منهك اقتصادياً ومالياً واجتماعياً، بما يعزز بعض الشيء الاستقرار الاقتصادي ويحسن المناخ الاستثماري، ويوفر بعض فرص العمل التي يمكن ان تضع حداً للنزف البشري.

صحيح ان مكاسب التوقيع اقتصادياً ومالياً لن تظهر فوراً بما ان التنقيب والاستخراج يحتاجان الى ما لا يقل عن خمس الى سبع سنوات، وربما اربع سنوات في أفضل الأحوال في ظل الحاجة الاوروبية الملحّة للطاقة بسبب الحرب الروسية على أوكرانيا، إلا انها تمنح البلاد فترة سماح ومتنفس لالتقاط الانفاس مجدداً والخروج من جهنم، من دون ان يعني ذلك ان حلاً سحرياً سيعالج الازمات المتراكمة، ما لم يترافق ذلك مع قرار جدي بإنقاذ الدولة بمفهومها المؤسساتي لتستعيد دورها. كما ان تلك المكاسب ستعني ان لبنان، وفي لحظة إقليمية ودولية خاطفة، قادر على اقتناص الفرصة والنفاذ باستحقاقاته الدستورية على نحو يضمن استقراره وعدم انزلاقه الى الفراغ وما يرتبه من محظورات أمنية وسياسية واقتصادية واجتماعية.

ذلك انه لو سقط الترسيم فكان الامر ليعني ان لبنان عجز عن التقاط اللحظة، وان اي تسوية محتملة لوضعه الداخلي سقطت، وتالياً ستكون الصورة أكثر قتامة مما يعتقد الوسط السياسي، اذ ان الأمور ستخرج عن سيطرة القيّمين عليها، ولا سيما على صعيد الاستحقاقات الداهمة المتصلة بانتخاب رئيس جديد للجمهورية وتشكيل حكومة، ولن يكون لبنان في وضع قادر على تحمّله لا سياسياً وامنياً ولا اقتصادياً واجتماعياً.

ثمة احتمال ثالث يتخوف منه بعض من في الوسط السياسي ويكمن في الذهاب الى خيار الترسيم وتوقيع الاتفاق، من دون ان يترافق ذلك مع تسوية سياسية داخلية تضمن انجاز الاستحقاق الرئاسي، بحيث يكون لـ”حزب الله” حصة الأسد من الاتفاق، بما يطلق يده في الداخل ويترك له حرية النفوذ والتحكم بالاستحقاق وغيره من الاستحقاقات الاخرى، بما فيها الاستحقاقات الاقتصادية والمالية. ذلك ان الصورة عشية الجلسة الثانية لانتخاب رئيس لا تزال عالقة في قمقم الخلافات ورفض الاحتكام الى المسار الديموقراطي من خلال انتاج محلي لرئيس جديد.

امام لبنان اليوم فرصة ليوجه فيها رسالة الى الخارج انه بات جاهزاً لصون استقراره والإمساك بزمام معالجة ازماته الاقتصادية والمالية عبر اللجوء الى الاستثمار في ثروته النفطية، بقطع النظر عن الظروف الأمنية والسياسية. ولكن السؤال: هل وصل النضج السياسي لدى القوى المحلية المتخاصمة الى مستوى الفصل بين النزاعات السياسية والازمات الاقتصادية التي يتخبط فيها البلد؟ الشكوك كبيرة جداً حيال هذا الامر.

 

سابين عويس – النهار