باسيل يؤلّف كتاب “فنّ التعطيل”

اللبنانيون جميعهم في وضع يرثى له. أخصّهم بين المسيحيّين مَن يعبّر عن شطر وازن منهم: صهر الرئيس المتأهّب للرحيل، رئيس التيار العونيّ جبران باسيل. الرجل المشرق الوجه، المعتم السريرة، المهذار الكلام، لا يتوقّف عن ضخّ التهويل بوصفه رجل التعطيل متى دخل البلد الشغور الرئاسيّ.

أمجاد دلّوع الجنرال

في الدول التي تستحقّ هذه الصفة يكون همّ سياسيّيها منصباً متمحوراً على توفير الاستقرار السياسي والسعي في الانتماء إلى الجانب المشرق من العالم. عندنا، أقلّه منذ تسلطن جبران معتمداً على أنّه صهر الجنرال وعلى تفاهم مار مخايل مع حزب الله، يحصل العكس: الأقوى سياسيّاً يبحث عن أنجع وسيلة لتعطيل الحياة السياسية ومعاييرها الدستورية.

تتويجاً لغزوة بيروت والجبل في 7 أيار 2008، فعلها باسيل في اتفاق الدوحة المشؤوم، وسكت الجميع عن دلّوع الجنرال. فالاتفاق أدخل إلى الحياة السياسية بلا خجل عبارة “الثلث المُعطِّل” المجيدة مثل الثلاثيّة الذهبيّة: “الجيش والشعب والمقاومة”. ولا ندري أيّ قاموس لغة عربية أعان البعض على تفسير “المُعطِّل” بأنّه “الضامن”.

حتى لو كان الثلث من الوزراء ضامنين، لا بدّ من التساؤل: هم يضمنون ماذا غير تعطيل عمل الحكومة؟! وغير أنّهم يأتمرون بأمر مَن سمّاهم وعيّنهم وزراء ضامنين طاعة أمره؟ وهذا كلّه ليس سوى إفساد للعيش الوطني الواحد، مصدره مخاوف وهواجس تبثّها “الشيعية السياسية” المستقوية على الجميع وعلى نظيرتها “المارونية السياسية” التي جعلها عون وصهره في أسوأ أحوالها.

ملك التعطيل

مَن يتابع “تهويلات” باسيل يصيبه السأم والملل من سياسي الصدفة الذي يتجرّأ على الجميع في لبنان، قبل أن يتمسكن بصفته الوحيد الذي يحمل صليب لبنان على ظهره. أقسى أسلحته وأقصاها فعلاً: تدريب وزراء تيّاره، المهرولين جماعةً خلفه في كلّ مناسبة، على كيفيّة الاشتباك السياسي مع حكومة تصريف الأعمال متى آلت إليها إدارة الوضع الدستوري حال شغور الرئاسة الأولى.

جديد باسيل هو قديمه الذي أنهك البلد مراراً وتكراراً. عند رئيس التيار العوني كتاب وحيد عنوانه “التعطيل”. وهو يلجأ إليه كأنّه مستشاره السياسي الوحيد. وهو، شأن سياسيّي الصدفة جميعاً، ظلّت السياسة حرفته الطارئة.

في كتاب التعطيل الباسيليّ، الذي يفتحه اليوم وينهل منه، سابقتان:

ـ الأولى يوم احتجز وزراءه في مقرّ الخارجية اللبنانية بنيّة منع النصاب عن حكومة الرئيس تمّام سلام في اجتماعها. وكان المخرج، بعد تطييب خاطر آمر فصيلة وزراء التيار، حضور الوزير الياس بو صعب لإكمال النصاب، لكن للحيلولة دون إصدار أيّ مقرّرات.

ـ الثانية كانت أشدّ رثاثة في استعراضيّتها التلفزيونية: انتظر باسيل وبوصعب دخول الإعلاميين في بداية الجلسة الحكومية وفجّرا نصابها. وهذا على الرغم من استدراك وزير الداخلية آنذاك نهاد المشنوق الموقف بدعوة باسيل ورهطه إلى التمييز بين “داعش” وبين ابن صائب سلام. كانت الغضبة الطائفية عند العونيّين آنذاك في ذروتها المقيتة، وهي تستمرّ اليوم وتشحذ سمومها لاستئناف البدء الطائفي.
تخويف المسيحيّين

الآن لا يفعل باسيل شيئاً غير الاستعداد لإضافة مخاوف المسيحيين في ماضيهم إلى حاضرهم ومستقبلهم. يمعن في إحياء هواجس الأقليّة. يُسخّف دور المسيحيين في لبنان والشرق بجعل قلقهم مقتصراً على موظّف هنا وآخر هناك.

كيف يمكن كتاب باسيل أن يكون هادياً للمسيحيين الذين يقول كتابهم المقدّس: لبنان وقْف الربّ، فيما قداديسهم تملأ الأرض ترانيم محبّة، وكهنتهم يلتحفون الأرز. لكنّ حرفة باسيل التعطيليّة، وإصراره على ألّا يفكّر المسيحيون بأنفسهم إلا كأقليّة، جعلاهم عاجزين عن فتح أفق للبلد على جادّة الصواب السياسي.

مشكلة الأقليّات حقيقيّة في المشرق. وليس لعاقل أن ينكرها. لكنّ هذه “الفزّاعة” لا أصل لها في لبنان. اتفاق الطائف يضمن مصالح الجماعات، وهذه نقطة قوّته. ضعفه أو ثغرته في أنّه لا يراعي أوضاع الأفراد. ما زاد من سخف “ادّعاء هواجس الأقليّة المسيحية” هو تسخيرها لفريق مسيحي من دون آخر، وفي معرض إلغاء هذا الآخر، وهو القوّات اللبنانية.

ما يصبّ “نار” باسيل على زيت “الأقليّة” هو وعي سياسي مسيحي رديء لا يريد أن يرى أنّ رئيس التيار العوني دفعهم دفعاً في أتونٍ من الأفكار المعاكسة لخيارهم التاريخي وغريزتهم السياسية: التودّد إلى ديكتاتورية بشّار الأسد. وهذا على الضدّ من قيم الكنيسة، وكان أبهاها قول مثلّث الرحمات البطريرك صفير: “إذا خُيّرنا فسنختار الحرّية”.

تتناسى “المسيحية السياسية” الباسيلية أنّ رحمها السياسي تصدّع، وأنّ من أنهكها هي “العسكرتيريا” وحزب الحروب المقدّسة في هذه المنطقة الكئيبة التي يظهر فيها كلّ يوم حكواتيّون يروون القصص السياسي على طريقة مجلّة سوبرمان للأطفال، تحت عنوان “حكمة السيّد” و”رجاحة عقله”، من دون السؤال عمّا حصل في لبنان بعد 7 أيار 2008 المُهين، وما يحصل منذ أكثر من سنتين من مهانات وخراب زاحف في البلاد.

وإذا صحّ أنّ المسيحيين اللبنانيين هم درّة تاج هذا البلد في زمن مضى، فإنّ من استنزف قوّتهم هو الوصاية السورية التي ورثها حزب الله.

ليس لمشاريع باسيل واستعداداته السياسية أيّ أمل ليُحمل على محمل الجدّ. وهذا واقع مرير يستدعي التبصّر في معنى “الوطنية السياسية” اللبنانية التي إن ذهبت في لحظة فراغ دستوري فلن يبقى مُفيداً بعدها غير الندب.

 

 

أيمن جزيني – أساس ميديا