الطائف ورئاستا معوض والهراوي والإعتقال

لم تكن ولادة حكومة العماد ميشال عون العسكرية مجرد عبث في اللعبة السياسية فحسب. كانت تعبيراً عن الإنهيارات التي يمكن أن تصيب مجتمعاً نتيجة عدم التقدير الواضح والخاطئ والبسيط للمرحلة من دون أي أفق استراتيجي وحتى تكتيكي. بغض النظر عما إذا كان قرار الرئيس الجميل في الدقائق الأخيرة من حكمه خاطئاً أم لا، فإن ما قام به العماد ميشال عون كان قمة الفداحة التي نتجت عن كمية كبيرة من الأخطاء.

في النصف الثاني من ولايته قامت علاقات ملتبسة بين كل من قائد «القوات اللبنانية» سمير جعجع وقائد الجيش العماد ميشال عون ورئيس الجمهورية أمين الجميل وهي المواقع المارونية الثلاثة التي كان يجب أن تتكامل في مواجهة الأزمة الداخلية والمرحلة الخطرة التي كان يجتازها المسيحيون. في انتفاضة 12 آذار 1985 كان سمير جعجع ضد أمين الجميل ووقف عون مراقباً. وفي انتفاضة 15 كانون الثاني 1986 كان أمين الجميل إلى جانب سمير جعجع بينما كان عون إلى جانب إيلي حبيقة. وعندما لم يحرك عون الجيش غداة اختراق المناطق الشرقية في 27 ايلول 1986 نزل الجميل إلى وزارة الدفاع وحرّكه. والتقى الثلاثة على تعطيل فرض انتخاب الرئيس السابق سليمان فرنجية رئيساً للجمهورية في 18 آب 1988. ثم التقى عون وجعجع ضد وساطة السفير الأميركي ريشارد مورفي الذي عاد من سوريا في 18 أيلول 1988 بخيار واحد هو «مخايل الضاهر أو الفوضى» مع أنه ذهب بعدة خيارات وأسماء كان اتفق عليها الجميل مع جعجع وليس من بينها اسم عون. ووقف عون وجعجع ضد ذهاب الجميل إلى سوريا في 21 أيلول 1988 للقاء الأسد والإتفاق على اسم جديد، وفي اليوم التالي كان الجميل يقف إلى جانب عون لالتقاط الصورة التذكارية بعد مرسوم تشكيل الحكومة العسكرية.

جعجع وحكومة الإستقلال

حتى منتصف ليل ذلك اليوم كان قصر بعبدا مرتعاً للمتاهة السياسية. كان من المفترض أن تكون هناك حكومة جاهزة في جيب الرئيس الجميل كما كان وعد. ولكن الساعات مضت بحثاً عن لا شيء وكان سمير جعجع في القصر الذي اختلط فيه الحابل بالنابل قبل أن تقع بين يديه كرة نار هذا القرار فتلقفها معتبراً أنّ حكومة عون حكومة استقلال وأكثر. قبل استحقاق 22 ايلول رفع هذا الشعار وبقي متمسكاً به في ظل البحث عن رئيس أو عن حكومة برئاسة مدني كالنائب بيار حلو يتمثل فيها مع عون ولكن المشكلة كانت أن الجميل كان يرفض توزير عون.

حكومة الإستقلال التي أرادها قائد «القوات اللبنانية» وقتها كانت تعكس حلم حكم الإستقلال الذي أتى ببشير الجميل رئيساً للجمهورية وهي صورة الحكم التي أرادها جعجع بعد «الطائف» وأدت به إلى «الإعتقال» في مواجهة عهد الإحتلال السوري وهي الحكومة التي يريدها بعد خروجه من السجن في مشروع الرئاسة الذي رفعه منذ ترشحه في العام 2014 ولا يزال يرفعه اليوم في مرحلة البحث عن رئيس يخلف الرئيس ميشال عون. الصورة التي تريدها «القوات» عن الحكم والحكومات، من بشير إلى سمير لم تتبدل ولم تتغير.

جعجع وعون

عون والقدر الصعب

كان من الصعب جداً على سمير جعجع و»القوات» التعايش مع مشروع ميشال عون للسلطة. منذ أصبح قائداً للجيش وجّه أسهم العداء تجاه «القوات» التي اعتبر أنها تنافسه في الشارع المسيحي بدلاً من أن يتماهى معها في مشروع واحد. كان سمير جعجع أمام خيارين صعبين: مماشاة عون من دون أي سؤال «على العمياني» في مشاريعه السلطوية وغير المدروسة، أو مواجهته. اختار «أهون الشرين» باعتماد سياسة عدم التماهي وعدم الصدام والهروب من المشكل.

ولكن مع عون لم يكن الهروب أو التهرب ممكناً. بعد ذهابه إلى تونس للمشاركة في اللقاءات اللبنانية التي دعت إليها اللجنة العربية عاد ليشن أول حرب على «القوات» في 14 شباط 1989. احتوى جعجع الإنفجار وعلى رغم تعرّضه لمحاولة اغتيال واستشهاد مرافقه إلى جانبه وهو في طريقه إلى قصر بعبدا أكمل ووصل وقدم تنازلات للجنرال. ولكن الجنرال كان يريد أكثر من ذلك. اعتقد أن سوريا ستوافق على انتخابه رئيساً. طلب إقفال المرافئ غير الشرعية وعندما لم تستجب لطلبه أعلن في 14 آذار «حرب التحرير».

بحكم خبرتها العسكرية والقتالية ومعلوماتها الإستخباراتية كانت «القوات اللبنانية» تعرف أن مثل هذه الحرب انتحار. يمكن تشكيل حالة صمود في مواجهة الجيش السوري، ولكن لا يمكن خوض «حرب تحرير». كان عون يراهن على أنّ سائر اللبنانيين سيخرجون على السيطرة السورية لملاقاته في تحرير كامل الأراضي اللبنانية.

كسر قرار «حرب التحرير» المحرّمات ففرض النظام السوري حصاراً شديداً على المناطق الشرقية وتحولت الحرب إلى مجرد عمليات تبادل للقصف المدفعي الذي يتفوق به الجيش السوري. في ظل هذا الواقع المتردي بدأ البحث عن مخرج من الحرب عبر ذهاب النواب إلى الطائف للبحث في مسألتين: تعديل الدستور وسحب الجيش السوري من لبنان. بمسعى من موفد اللجنة العربية الوزير الجزائري الأخضر الإبراهيمي بدأ البحث عن هذا المخرج وبغطاء من البطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير وبعد لقاء بين النواب في المناطق الشرقية والعماد عون ذهبوا إلى الطائف آخر أيلول 1989. منذ ذهابهم كان هناك شبه توافق على أن يكون النائب رينيه معوض رئيساً للجمهورية وهو كان أحد الأسماء الثابتة في كل الإقتراحات لانتخاب رئيس قبل 22 أيلول.

اغتيال رئيس وانتخاب رئيس

اتهم عون «القوات» مع البطريرك بتغطية «الطائف» ولم يجد في الإتفاق إلّا بكونه الطريق للتخلص منه، وعبثاً حاولت «القوات» التهرب من هذه التهمة. في 5 تشرين الثاني تمّ انتخاب معوض رئيساً في مطار القليعات وفي اليوم نفسه اعتدت مجموعات مؤيدة للعماد عون على البطريرك صفير في مقره في بكركي فاضطر تحت التهديد إلى الإنتقال إلى الديمان. ولكن عون أجّل المواجهة مع «القوات».

رفض عون تسليم الرئيس الجديد على رغم تأييد العالم كله لاتفاق «الطائف». حاولت «القوات» التنسيق مع معوض ولكنّها تجنبت رد فعل عون لأنه كان يمكن أن يؤدي إلى صدام على الأرض. بعد 17 يوماً اغتيل الرئيس الجديد وبدت عملية اغتياله كأنّه اغتيال «للطائف» ومحاولة من سوريا لاستعادة زمام المبادرة والإمساك بتطبيق الاتفاق بعدما شكّل معوض حالة استقلالية فعلية عندما رفض توصيات سورية بتسمية عدد من الوزراء وطالب بسحب الجيش السوري من أقضية الشمال لتكون هذه الخطوة ورقة قوة في مواجهة تعنّت عون.

ذهب رئيس مجلس النواب حسين الحسيني إلى سوريا وعاد بتوجيه من رئيسها حافظ الأسد بانتخاب النائب الياس الهراوي رئيساً للجمهورية بعدما فشلت محاولة تسمية النائب بيار حلو الذي رفض استخدام القوة ضد عون وسقط الخيار الذي حاول تمريره «رجل الأعمال» رفيق الحريري بطرح اسم جان عبيد.

في 24 تشرين الثاني 1989 تمّ انتخاب الياس الهراوي رئيساً في فندق بارك أوتيل في شتورة. أقسم اليمين في المكان نفسه الذي أقسم فيه الرئيس الياس سركيس اليمين. ولكن بين القسمين مسافة شاسعة. بدا بعد اغتيال معوض أنّ القرار عاد إلى سوريا. عملية انتخاب الهراوي كانت البداية حتى النواب الذين كانوا غادروا إلى باريس عادوا عن طريق مطار دمشق للمشاركة في الإنتخاب. وحتى الهرواي نفسه أقام في البداية في البقاع. شكل حكومته الأولى وكانت «القوات اللبنانية» خارجها وهدد بالحسم ضد العماد عون ولكن القرار بعملية من هذا النوع كان في دمشق.

الياس الهراوي وحافظ الأسد

الهراوي كان يعلم

ما حاولت القوات أن تهرب منه وقع في 31 كانون الثاني 1990 عندما شن عون «حرب الإلغاء». كان يريد أن يحسم الوضع في «المنطقة الشرقية» ليحصّن وضعه ضد الهراوي. في حساباته كما في «حرب التحرير»، كان يعتقد أنه يحتاج إلى 48 ساعة ليسيطر ويصير الأقوى ولكنّه وقع في المحظور وشطر المناطق الشرقية قسمين. عند هذا الحد بدأ النظام السوري يمده بما يساعده على البقاء ليستمر في الحرب ضد «القوات».

اجتاح صدام حسين الكويت وقلب المعادلات في المنطقة. انضم حافظ الأسد إلى الحملة الأميركية لطرد صدام من الكويت. في 13 تشرين دخل الجيش السوري إلى قصر بعبدا ووزارة الدفاع ولجأ عون إلى السفارة الفرنسية. كانت مرحلة جلجلة طويلة وانتهت ولكن كانت هناك جلجلة ثانية تنتظر «القوات».

في الحكومة الثانية التي تشكلت بعد 13 تشرين برئاسة عمر كرامي كان واضحاً أنها صُنعت في دمشق وصدرت مراسيمها في بيروت. سُمي سمير جعجع وزيراً ولكنه اعتذر. كان على «القوات» أن تواجه وحيدة عملية مصادرة سوريا للقرار اللبناني فبدأ التضييق عليها لإحراجها وإخراجها من المعادلة بينما معظم الآخرين انضووا تحت السقف السوري إلا البطريرك صفير الذي كان يدرك أيضا حجم التحوّل الحاصل.

بعد الإنقلاب الحكومي تمّ تنفيذ عملية الإنقلاب النيابي للتخلص من بقايا مجلس 1972 والإتيان بمجلس 1992 على رغم تعيينات النواب التي أتت بمن هم محسوبون على النظام السوري لاستكمال العدد إلى 128 نائباً.

رعت «القوات» مع البطريرك صفير عملية مقاطعة الإنتخابات. وعلى رغم ذلك أجريت بمن حضر وبنسبة 13.8 في المئة. تبدّل المشهد السياسي وبدأ فتح الملفات القضائية ضد «القوات» وبدأت حملة الإعتقالات وبدا سمير جعجع وحيداً في المواجهة من مقره في غدراس.

تمّ تفجير بيت الكتائب في الصيفي في 20 كانون الأول 1993. في اليوم التالي كان موعد انعقاد المجلس الأعلى اللبناني- السوري في دمشق. عند حدود المصنع سمع الهراوي كلاماً من عبد الحليم خدام والعميد غازي كنعان استشف منه أنّ هناك خطة لاستهداف سمير جعجع. أنهى المحادثات في 21 كانون الأول وقرر العودة ليلاً وأرسل رسالة إلى جعجع فحواها أنّ هناك عواصف آتية وهناك خطر عليك وعليك أن تغادر لبنان مع زوجتك ستريدا. لم يأخذ جعجع بالنصيحة وكان الهراوي عاجزاً عن وقف هذا المسار. في 27 شباط تمّ تفجير كنيسة سيدة النجاة في زوق مكايل وتم توجيه التهمة مباشرة إلى القوات. وعلى رغم أنّ الهراوي كان يعلم إلّا أنّه غطّى عملية اتهام «القوات اللبنانية» ثم حلّ الحزب في آذار واعتقال سميرجعجع في 21 نيسان. كان واضحاً أنّ الجهاز الأمني اللبناني الخاضع للإدارة السورية وكأنه جزء منها، هو من يتحكّم باللعبة وبالتحقيق وبالتهمة والمحاكمة وأنّ رئيس الجمهورية مستسلم لهذا القدر ويكتفي بحصة وزارية وبالإقامة في قصر بعبدا بعد ترميمه والعودة إليه بينما كانت الجمهورية تدفن في مقابر النظام السوري ويوضع على قبرها حجر.

ولكن هذا الحجر كان لا بد أن يتدحرج. تمّ التمديد للهراوي وكان جعجع في السجن. وتمّ انتخاب العماد أميل لحود رئيساً للجمهورية وكان جعجع في السجن وتم التمديد للحود وجعجع كان لا يزال في السجن. عام 2005 انقلبت الموازين، والسجين الذي كان في الطابق الثالث تحت الأرض في سجن انفرادي في وزارة الدفاع سيعود إلى الحرية ليصير مرشحاً لرئاسة الجمهورية وصانعاً للرؤساء في بحث دائم عن حكومة استقلال يصنعها رئيس استقلالي وسيادي.

 

 

نجم الهاشم – نداء الوطن