يروي مرجع حكومي سابق انه كان يستقبل دورياً مسؤولاً ايرانياً بارزاً من خارج لبنان، بناء على طلب الاخير في سياق المواكبة الحثيثة لطهران للملف اللبناني، وتذكير اللبنانيين بالحضور الطاغي الذي يعكس اهتماماً خاصاً يترجَم عبر تمثيل رفيع يتجاوز السفير.
ويروي المرجع عينه انه ما ان تنتهي الزيارة حتى يطلب سفراء دول معنية بلبنان تدور في الفلك الآخر، مواعيد لإعادة ضبط الايقاع ومنع الانزلاق الى التسليم بسياسة طهران في لبنان.
المشهد كان يتكرر ايضاً مع سفراء غربيين لدول مثل الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وفرنسا، او لدول عربية أخصّها المملكة العربية السعودية ومصر، في انعكاس واضح لحجم التدخل الذي تمارسه هذه الدول في السياسة اللبنانية، فضلاً عن حجم التأثير على تلك السياسة بقطع النظر عن الفلك الذي تدور ضمنه القوى السياسية المحلية المنقسمة أساساً وتقليدياً وحتى تاريخياً بين الرعاة الإقليميين والدوليين.
الصورة في لبنان لا تتغير أبداً، بل هي تزداد توهجاً في ظل اداء انسيابي للقيادات اللبنانية لرعاتها الخارجيين، عرباً كانوا أم غربيين.
آخر التجليات تظهّرت في الوساطة الأميركية في ملف ترسيم الحدود مع اسرائيل والذي كان لواشنطن دور كبير في انجازه، في حين سارع الافرقاء المحليون الى التفاخر بدور ما في جذب الاهتمام والدعم الأميركيين الى البلد بعد انسحاب طويل الامد.
المشهد عينه يتكرر مع الفرنسيين ومع السعوديين، وأحياناً يتمدد نحو المصريين والقطريين وفق ما تقتضيه الحاجة، رغم ان “الاستزلام” قلّما يمون “على القطعة”.
بالأمس، انتقل المشهد الى السفارة السويسرية، حيث شكّل العشاء الذي دعت اليه السفيرة لعدد من ممثلي الأحزاب والتيارات اللبنانية
مادة دسمة للتجاذب حيال مسألة حساسة ودقيقة تتصل بالدستور والنظام اللبناني، وذلك بعدما وُضعت الدعوة في إطار التحضير لمؤتمر حوار سيعقد في سويسرا للبحث في النظام السياسي الجديد للبلد.
والواقع ان الشرارة التي أطلقت هذا التجاذب تمثلت في تغريدة أطلقها السفير السعودي جدد فيها اهمية التمسك بدستور الطائف، على نحو بدا بمثابة رد على الدعوة السويسرية، فيما جاء انسحاب ممثلا حزب “القوات اللبنانية” والحزب التقدمي الاشتراكي كتأكيد لهذا المنحى.
فهل المشكلة في دور السفارات وتدخّلها في الشؤون اللبنانية، أم في مقاربة القوى السياسية المحلية للعلاقة مع السفراء، وتوسيع هامش التحرك امام هؤلاء، بحيث يتجاوز دورهم الصلاحيات المنوطة بمهماتهم كممثلين لدولهم ولمصالحها في لبنان الى التدخل في كل شاردة وواردة، وصولاً الى بناء صداقات تقارب المستوى الشخصي؟
على اهمية المسؤولية التي يتحملها المسؤولون اللبنانيون في صياغتهم لعلاقاتهم او علاقات احزابهم وتياراتهم بالسفارات وممثليها ودولها والتي تمعن في انتهاك السيادة الهشة للبلد، الا انه لا يمكن في المقابل إسقاط مسؤولية الدول في هذه المقاربة الملتبسة لعلاقات لبنان بالخارج، وواقع الامر انه شكّل ولا يزال مساحة خصبة لتبادل الرسائل الدولية وترجمتها على ارضه او من خلاله. وهو، على تراجع موقعه ودوره في هذا الشأن، لا يزال يتلقى الرسائل ويُستعمل إما ورقة تفاوضية كما هي الحال في الملف الأميركي – الإيراني، وإما موطناً للجوء كما هي الحال بالنسبة الى دول أوروبا القلقة من الهجرة غير الشرعية اليها.
لا يخرج التجاذب حول الدعوة السويسرية عن هذا البُعد، على ما تقول مصادر ديبلوماسية متابعة، مشيرة الى ان سويسرا لا تقوم بأي مبادرة حوارية حتى لو كان من خلال منظمة غير حكومية تتعاون معها في سلسلة حوارات وندوات، من دون تنسيق مسبق مع واشنطن. ويأتي الرد السعودي الفوري على الدعوة ليؤكد أمرين، ان المملكة لا تزال موجودة في لبنان أولاً، ومتمسكة بحماية وثيقة الطائف التي تشكل دستور البلاد، وانبثقت من توافق اللبنانيين في مدينة الطائف السعودية التي أنهت الحرب وأسست لمرحلة السلام والاستقرار.
لم يكن الرد السعودي على السفيرة السويسرية، بقدر ما كان على مَن وراء الدور السويسري في لبنان. فالعودة الأميركية الصاخبة من باب ترسيم لحدود البحرية الذي أمّن لواشنطن السيطرة البحرية التامة على هذه المنطقة الحيوية والحساسة في الصراع في المنطقة، ترافق مع عودة مماثلة للمملكة العربية السعودية من باب حماية الطائف ودعم الطائفة السنّية المشتتة بعد خروج او إخراج زعيمها سعد الحريري من الحياة السياسية وعدم بروز بدل عن ضائع. لكنّ العودتين تزامنتا مع خلافات حادة على مستوى العلاقات الأميركية – السعودية حول انتاج النفط، لا تستبعد المصادر الديبلوماسية عينها ان يكون احد الأسباب التي دفعت المملكة الى رفع مستوى التصعيد، علماً ان سبباً آخر وراء هذا التصعيد يكمن في القلق المتزايد في اوساط الطائفة السنية حيال بدء العد العكسي لمشروع اعادة النظر بالنظام السياسي اللبناني والمخاطر التي سيرتبها على الحصة السنية الوازنة في السلطة، بعد بروز ملامح صفقة او تسوية لم تتبلور في شكل واضح بعد حيال التسليم الأميركي لنفوذ طهران في لبنان، مقابل انجاز الترسيم وضمان أمن اسرائيل والمنطقة البحرية.
ولا تستبعد المصادر ان يتضح هذا المسار عبر مجموعة من الإشارات تبدأ من اقرار شروط صندوق النقد الدولي ولا تنتهي بانتخاب رئيس وتشكيل حكومة جديدة!
سابين عويس – النهار