الترسيم البحري: اتفاق العقل والتعقّل

بعيداً عن المهللين بالانتصار الإلهي، والمولولين بخيانة الدستور والحقوق الوطنية، فإن مسوّدة اتفاق الترسيم بين لبنان وإسرائيل التي صاغها الجانب الأميركي والتي قد يطلب الطرفان بعض التعديلات الطفيفة عليها، تشكل اتفاق العقل. لا داعي لمغالاة البعض في تقييم دور “حزب الله” في الاتفاق، ووصفه بالانتصار، أو بغلبة معادلة “الثلاثية الذهبية”، لأن الأمر ليس انتصاراً لما يُسمّى “مقاومة”، لسبب بسيط أنه لا يتجاوز أيّاً من المطالب اللبنانية التي كان الإسرائيليون ومن خلفهم الأميركيون يسلّمون بها بشكل أو بآخر، كالخط ٢٣ الذي قلنا منذ اليوم الأول لإطلاق الأمين العام لـ”حزب الله” تهديداته المتلفزة بشن حرب إنها كانت موقفاً كلامياً. يومها توهّم جمهور عريض غير ملمّ بما يحصل في الكواليس أن هذا التهديد بالحرب الذي وُجّه بمناسبة وصول سفينة التنقيب والاستخراج التابعة لشركة “إنيرجين” اليونانية – البريطانية الى حقل كاريش، هو من أجل انتزاع حصّة في حقل كاريش عند النقطة ٢٩. والحقيقة أن الخط ٢٩ لم يكن سوى اقتراح قدّمه ضبّاط في الوفد اللبناني المفاوض خلال جولة التفاوض التي حصلت العام الماضي، ولم يكن اقتراحاً يستطيع لبنان أن يدافع عنه. وبناءً على ذلك فإن التهديد بالحرب ربّما منح المفاوضين اللبنانيين والإسرائيليين دفعة الى الأمام للتعجيل بالاتفاق. والتعجيل بالاتفاق مفيد للبنان لكنه مفيد أكثر لإسرائيل التي تسبق لبنان بسنوات في ما يتعلق بالاستفادة من الثروة الغازية والنفطية في البحر. ومعلوم أنه في أحسن الأحوال لن يستفيد لبنان من حقل “قانا” الذي حصل عليه بنسبة الثلثين قبل سنوات طويلة، علماً بأن الشركات ولا سيما شركة “توتال” تقول علناً إنها تجهل ما يكتنزه حقل قانا وتحتاج الى التنقيب لمعرفة ما فيه. أما حقل كاريش الإسرائيلي فهو جاهز لدخول مرحلة التسويق التجاري بمعنى أن الإنتاج بات قريباً جداً ومنه الى التسويق الفوري عبر خط أنابيب الى مصر فأوروبا.

إذن لا حاجة للتهليل بما ليس حقيقياً. لكن في المقابل لا حاجة لصراخ من نوع آخر، واتهامات بالخيانة توزّع هنا وهناك. فحقل كاريش لم يكن مرّة مطروحاً على طاولة المفاوضات مع الإسرائيليين. وحده الخط ٢٣ ومن ضمنه حقل قانا الذي إن تبعنا الخط ٢٣ يصبح ثلثه خارج الخط الذي اعتبره المفاوض اللبناني حدوده البحرية. إذن، وبعيداً عن المزايدات العقيمة لا بدّ لنا من التوقف قليلاً عند أهمّية الترسيم لأنه في كل الأحوال يصبّ في مصلحة لبنان. فهو يحرر حدود لبنان البحرية جنوباً من أي عوائق للاستثمار النفطي، والأهم أنه يسحب ذرائع التوتير الأمني على الحدود مع إسرائيل. نحن لا نقول حرب، لأننا منذ اليوم الأول كنا على اقتناع بأن “حزب الله” يرفع الصوت لأهداف تتعلق بتموضعه السياسي في البلد من خلال خطاب يشكل رسائل الى الخارج مفادها أنه يمتلك القرار السيادي في لبنان، وأنه يريد دوراً في كل شأن ذي انعكاسات على الساحة اللبنانية والإقليمية. وفي قضية التفاوض التي كانت منتهية من الناحية العملية، دخل “حزب الله” بموقف تصعيدي من فوق الشرعية اللبنانية وجلّها متواطئ معه ليحجز له مقعداً على طاولة “كونسورتيوم” الغاز في شرق المتوسط. وأعضاء الكونسورتيوم دول ذات سيادة ما عدا لبنان الدولة التي تحكمها ميليشيا وبدورها تحكمها دولة خارجية (إيران).

في الخلاصة، إن تم الاتفاق فسيكون اتفاق العقلنة، اتفاق الممكن للطرفين. فلنسرع بإتمامه.

 

 

علي حمادة – النهار