في خضم الايجابيات التي رافقت ملف ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل برعاية اممية ووساطة أميركية، وسط معلومات متفائلة عن موعد قريب للتوقيع قد لا يتجاوز أسبوعين، كان لافتاً بقاء رئيس المجلس نبيه بري، وهو مهندس اتفاق الإطار المعلن في مجلس النواب في حزيران ٢٠٢١، خارج هذه المناخات التي عززتها الأجواء الواردة من نيويورك على هامش الاجتماعات السنوية للجمعية العمومية للامم المتحدة من جهة، والتصريحات الإسرائيلية وآخرها ما أورده قبل يومين رئيس الوزراء يائير لابيد عن توقعاته في شأن التوصل الى الاتفاق خلال الاسبوعين المقبلين. وتزامن هذا الموقف مع كلام لنائب مساعد وزير الخارجية الأميركية لشؤون لبنان وسوريا والأردن إيثان جولدريتش الذي نوه بجهود لبنان واسرائيل اللذان يأخذان المفاوضات على محمل الجد، ويفهمان مكامن الخطر، وما هو على المحك، مبدئياً تفهم ادارته لكونهما على وشك التوصل الى اتفاق، من دون ان يحدد أين “يقفان الآن او في أي لحظة يحين موعد إتمام الاتفاق”.
لم يكن بري وحيداً في البقاء على مسافة من تلك الأجواء، بل لاقاه رئيس الحكومة المكلف نجيب ميقاتي في ذلك، ومن نيويورك تحديداً حيث انطلقت شرارة التفاؤل، اذ لم يخف ميقاتي تحفظه عن تلك الأجواء، كاشفاً في احاديث صحافية عن ان الخطوات الإيجابية ليست نهائية، وان التسريبات عن التوصل الى اتفاق ليست بهذا الوضوح، معلناً انه لم يتبلغ اي شيء بعد. وربط الامر بضرورة وجود جو سياسي توافقي في البلد لأن أي فريق لا يمكنه ان يتفرد في اتخاذ القرار. وبدا واضحاً من مواقف ميقاتي تلميحاته الى ان الإيجابية او السلبية رهن ما سيعرضه رئيس الجمهورية عليه وعلى الرئيس بري، غامزاً من قناة تولي نائب رئيس المجلس الياس بو صعب هذا الملف بتكليف من رئيس الجمهورية.
لم تلغِ هذه التحفظات ورود معلومات الى بيروت اول من أمس عن ان الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين سيرسل مقترحه خطياً الى بعبدا قبل نهاية الأسبوع الراهن.
فما حقيقة الأجواء المتفائلة بقرب توقيع الاتفاق، وهل يمكن وضعها في سياق السباق الجاري على خط بعبدا من اجل تجيير هذا الإنجاز لرصيد الرئاسة قبل انتهاء الولاية، خصوصاً وان حركة بو صعب في واشنطن بدت في هذا السياق، وان كان البعض ربطها ايضاً بملف العقوبات على النائب جبران باسيل، وذلك في إطار مقايضة ما يجري العمل عليها قبل موعد الانتخابات الرئاسية، أو ان ثمة تقدماً حقيقياً قد تحقق، ويتصل في الواقع في سباق من نوع آخر له علاقة بالانتخابات الإسرائيلية ورغبة واشنطن في اغلاق الملف وانجاز الترسيم قبل هذا الموعد؟
الاكيد وفق مصادر سياسية مواكبة لهذا الملف ان الامرين يصحان، ما يجعل المصالح اللبنانية الأميركية الإسرائيلية المشتركة تلتقي على ضرورة انجاز الترسيم في الأسابيع القليلة المقبلة، خصوصاً وان بعبدا تضغط في اتجاه انجاز الاتفاق بهدف توقيعه قبل انتهاء ولاية الرئيس على قاعدة ان الاتفاقات والمعاهدات الدولية هي من صلب صلاحيات الرئيس، ولا يمكن تجييرها لحكومة ولا سيما اذا كانت حكومة تصريف اعمال.
والواقع ان هذا الامر ليس دقيقاً، على ما تقول المصادر المعنية. ذلك ان لا وجود لاتفاقية بمعنى المعاهدة سيتم التوقيع عليها بين لبنان وإسرائيل في شأن الترسيم، بل ان الوثيقة التي سيتم الاتفاق عليها ستنطلق مما أورده اتفاق الإطار الذي أعلنه رئيس المجلس ، بالتزامن مع إعلانه من واشنطن على لسان وزير الخارجية الأسبق مايك بومبيو والامين العام للأمم المتحدة والحكومة الإسرائيلية، والذي ينص صراحة على انه ” حين يتم التوافق على الترسيم في نهاية المطاف، سيتم ايداع اتفاق ترسيم الحدود البحرية لدى الامم المتحدة عملاً بالقانون الدولي والمعاهدات والممارسات الدولية ذات الصِّلة. وعند الوصول الى اتفاقيات في شأن الحدود البرية والبحرية، سيتم تنفيذ هذه الاتفاقيات وفقاً للتالي:
على الحدود البرية، في ما يتعلق بالخط الأزرق: بعد التوقيع من قبل لبنان وإسرائيل واليونيفل. على الحدود البحرية، امتداداً الى الحد البحري للمناطق الاقتصادية الخالصة، سوف تتم مخرجات المناقشات النهائية للمحادثات المتفق عليها للبنان واسرائيل لتوقيعها وتنفيذها”.
وقد استند اتفاق الإطار الى “التجربة الإيجابية للآلية الثلاثية الموجودة منذ تفاهمات نيسان ١٩٩٦، وحالياً بموجب القرار ١٧٠١، التي حققت تقدماً في مجال القرارات حول الخط الأزرق”.
ويحدد اتفاق الإطار ان ممثلي الولايات المتحدة الأميركية والمنسق الخاص للأمم المتحدة لشؤون لبنان يعدان محاضر الاجتماعات بصورة مشتركة التي ستوقع من قبلهما وتقدم الى اسرائيل ولبنان. للتوقيع عليهما في نهاية كل اجتماع. وهذا يعني عملياً ان الاتفاق سيكون بمثابة محضر اجتماع اخير يتم التوقيع عليه من قبل الفريقين المعنيين. وبناء على هذا المحضر، تحدد الحدود البحرية، والمجالات المحظورة امام اسرائيل. ولكن ما يحصل اليوم يخرج عن مندرجات اتفاق الإطار. ذلك ان التفاوض غير المباشر يجب ان يتم على طاولة الناقورة عبر اللجنة الثلاثية الذي تضم الجانبين اللبناني والاسرائيلي برعاية اممية وهذا هو جوهر انزعاج بري الذي بدأ يلمس ان ثمة من يعمل على سحب البساط من تحت قدميه. فرئيس المجلس الذي هندس اتفاق الإطار، يؤمن بأن مفاوضات اللمسات الاخيرة على الملف تتناول تفاصيل تقنية يحب ان يتولى امرها الوفد التقني، بحيث لا يكون التفاوض على خلفيات سياسية محض كما هو حاصل اليوم. فتجربة الترسيم البحرية تشبه تجربة رسم الخط الأزرق عام ٢٠٠٠، عندما أعلن لبنان انه خط انسحاب وليس خط حدود، ولا تزال هناك نقاط خلافية في هذا الشأن يتم العمل على تصحيحها عبر اللجنة الرباعية التي تضم الى جانب لبنان وإسرائيل والولايات المتحدة والامم المتحدة عبر اليونيفيل، علماً ان اليونيفل غير ممثلة باللجنة الثلاثية للترسيم البحري لأنها غير معنية به.
وعليه، فإن ما يرتسم اليوم في المفاوضات الجارية خط ازرق جديد وإنما بحري، يتطلب استئناف مفاوضات الناقورة التي، للمفارقة، وبحسب المعلومات المتوافرة، يتمسك بها الوسيط الأميركي، لكنه لا يخفي في المقابل حذره وقلقه من ان تؤدي تلك المفاوضات الى اجندا غير معلنة من التهديدات التي يمكن ان تطيح الاتفاق المرتقب.
من هنا، كانت المفاوضات النهائية في واشنطن، بما يعزز الرصيد الرئاسي في انجاز الاتفاق من جهة ويطيح دور رئيس المجلس من جهة اخرى!
سابين عويس – النهار