لا تتصل مؤشرات الانزلاق الى فلتان حبل الأمن وانفجار فوضى اجتماعية عارمة بوقائع الانتهاكات والسلوكيات الفردية أو المنظمة التي تتعاقب بسرعة مقلقة للغاية فحسب، بل ثمة ما يفوق هذه الوقائع خطورة في مسار كارثي للسلطة التنفيذية والمجلس النيابي حيال هذا الخطر يكاد يكون انتحاريا. من نماذج تخلّف السلطات عن احتواء انفجار اجتماعي عنيف ضد المصارف يلوح في الأفق منذ ثلاث سنوات، ان يصادف يوم الاقتحامات الطويل للمصارف الجمعة الماضي الذي يعدّ يوما مشهودا في اطلاق نذير انفجار العنف الاجتماعي مع جلسة لمجلس النواب كان يُفترض ان تنهي مناقشة موازنة السنة الحالية وتقرها “بالتي هي أسوأ” طبعا من الناحية التشريعية الصرفة نظراً الى عقم اصلاح ما افسده العطّار فيها طوال الأشهر العشرة التي سبقت انعقاد جلسة إقرارها.
والحال ان توحّد الكتل المعارضة حول اسقاط النصاب منعاً لإقرار الموازنة بمعزل عن تصور أو خطة ما يسمى “التعافي”، يشكل تطورا إيجابيا وطبيعيا واقل الايمان في مسار التخبط الهائل الذي اودى بالبلاد الى هذا الدرك من الانهيارات. ومع ذلك، فان الخطوة جاءت متأخرة الى درجة ربما لا تنفع في تجنّب الآتي من التداعيات المالية والاجتماعية بما يعني ان الوقت في لبنان لم يعد يرحم أحداً حتى حين تكون الإجراءات صحيحة ومنطقية. حال الموازنة هذه، يصحّ عليها انها صارت من لزوم ما لا يلزم وسيتعين على المعارضة بكتلها كافة، ما دامت “احتفت” أخيرا بتوحدها على اجراءٍ لاعلاء الصوت الاعتراضي، ان تتوجه الى الأخطر بكثير من مجرد تمرير موازنة لم يبقَ من صلاحيتها سوى ثلاثة اشهر الى نهاية السنة. المقصود بذلك ان المسار التشريعي الذي يتعامل مع أسوأ انهيار تاريخي شهده لبنان كان بالسوء نفسه الذي ساد سياسات السلطة التنفيذية عهداً وحكومات وقوى سياسية مشاركة في هذه السلطة. وان تشمّر المعارضة الآن عن ساعدَيها لإثبات حضورها هو امر إيجابي ولكن جاء متأخرا للغاية وفاقدا معظم وهجه ولن يحقق الكثير إلا اذا تمكنت الكتل المعارِضة غداً من فرض اجندة “انقلابية” بالمعنى الذي يقلب مسار التقهقر المتدحرج امام الازمة بدءا من فرض معالجات عاجلة وطارئة بكل المعايير لأزمة المودعين والودائع. ليست المعارضة النيابية والسياسية بعيدة بمسؤوليتها هي الأخرى عن التلكؤ في إيجاد حل لهذه الكارثة الاجرامية التي انقضّت على ملايين من اللبنانيين المقيمين والمنتشرين في ودائعهم المصرفية منذ ثلاث سنوات. لا في مجلس نواب ما قبل 15 أيار 2022 ولا في برلمان ما بعده قامت الكتل والقوى الحزبية والسياسية بالحد الأدنى مما كان يجب القيام به لمنع تفاقم أسوأ كارثة إجرامية في حق اللبنانيين افقرت شعبا بكامله حتى الاحتياط الماسي لهذا الشعب المتمثل بالاغتراب اللبناني.
دارت ولا تزال تدور رحى مؤامرة بكل المعايير البشعة الاجرامية للتآمر على اللبنانيين في القطاع المصرفي كما في المؤسسات السياسية، ولم تكن ثمة ردة فعل دنيا بحجم هذه المؤامرة فاذا بنا الآن امام ذرف دموع التماسيح على المودعين والفقراء الذين صاروا يناهزون التسعين في المئة من مجموع اللبنانيين المقيمين. مفاد الكلام ان البلد لم يعد يقف عند ضفة الانزلاقات القاتلة بل صار في صميمها، ولن يجدي المعارضة التمجيد بتوحدها شكلاً وعجزها عن صدمة ضخمة بحجم الكارثة. الرصاصة يستحيل ايقافها بعد انطلاقها من الفوهة … ولم تبقَ إلا الفسحة النهائية.
نبيل بومنصف – النهار