القطبة المخفيّة في ردّ قانون السرّية

قبل يومين، وبعد مضيّ أكثر من شهر على إقراره في المجلس النيابي، ردّ رئيس الجمهورية ميشال عون قانون تعديل السرّية المصرفية وسط التباس واضح حول الأسباب أو الحيثيات التي دفعت بالرئيس الى هذا الإجراء، أو تلك المتصلة بالتوقيت، بعدما مضى على إقراره خمسة أسابيع.

تعدّدت التفسيرات وفق القراءات المختلفة والمتباينة بين مؤيّدي قرار عون ومعارضيه، ولكن النتيجة واحدة: تعطل إقرار القانون الوحيد واليتيم الذي صادق عليه البرلمان من ضمن رزمة الإجراءات المسبقة الأربعة التي التزم لبنان الرسمي، رئيساً وبرلمان وحكومة، أمام صندوق النقد الدولي بإقرارها.

هكذا، وبدلاً من أن تكون المهلة القليلة الباقية أمام المجلس قبل أن يتحوّل هيئة ناخبة، فرصة لإنجاز القوانين الثلاثة المطلوبة والمتصلة بقانون الموازنة العامة والكابيتال كونترول وهيكلة المصارف، عُلق قانون السرّية المصرفية بعدما كان مشروع الكابيتال كونترول قد تلقى ضربة قاضية في لجنة المال والموازنة قبل أيام.

في القراءة الأولى لقرار عون ردّ القانون، يبدو جليّاً أن رئيس الجمهورية اللاهث وراء إنجاز يختم به عهده على مسافة أسابيع قليلة من انتهاء الولاية الرئاسية، سار عكس المتوقع. وبدلاً من أن يوقع القانون – كما فعل أساساً قبل أن يغيّر رأيه، ويضغط نحو إنجاز الموازنة، رضخ للرأي القائل بضرورة عدم التوقيع، على نحو يرضي صندوق النقد الذي كان قد أبدى ملاحظات على القانون. ولكن فات أصحاب هذا الرأي التعمّق بتعليق الصندوق، فوقعوا وأوقعوا الرئاسة في خطأ تحمّل مسؤولية تعطيل أحد مطالب المؤسسة الدولية.

في البيان الصادر عن الصندوق، تقييم إيجابي واضح للقانون من خلال وصفه بأحد الإصلاحات المهمة لنظام السرية المصرفية في لبنان، الذي يأخذ البلد نحو مواكبة المعايير العالمية والممارسة السليمة، مع التنويه بأن المهم في القانون إلغاؤه الحسابات المرقمة وإتاحة حق الولوج الى المعلومات المصرفية. لكن الصندوق أشار الى بقاء أوجه قصور في القانون، منها دعوته الى توسيع وجهة المؤسسات القادرة على الحصول على المعلومات، كالمصرف المركزي ولجنة الرقابة على المصارف ومؤسسة ضمان الودائع، أو إشارته الى أن القانون حافظ على المسؤولية الجنائية القويّة التي تصل عقوبتها الى السجن مع إمكان التجديد، معتبراً أن هذا الإجراء يمكن أن يكون له تأثير في الكشف على النشاط الإجرامي، مقترحاً إلغاء العقوبة الجنائية بالسجن على قاعدة أن الغرامات المرتفعة كفيلة بتوفير الإنصاف المناسب والفعال.

ولم يبد الصندوق ملاحظات على مسألة المفعول الرجعي في القانون. والأهم أن الصندوق أبدى ملاحظاته في شكل غير ملزم للحكومة.

فهل كان قرار رئيس الجمهورية ردّ القانون إرضاءً للصندوق أم لتعقيد الطريق أمام أيّ سلطة مقبلة في السير بمطالبه؟

لا تبدأ قصّة عون مع قانون تعديل السرية المصرفية من لحظة ردّه له، بل منذ أكثر من شهر وتحديداً منذ وُضع على جدول أعمال الهيئة العامة للمجلس النيابي. وفي الوقائع التي من المفيد سردها لفهم خلفية قرار الردّ، أن المشروع طُرح في الجلسة الصباحية للنقاش والتصويت، وانتهى الى إقراره بتصويت نواب تكتل “لبنان القويّ”. وقد أثار هذا الأمر استياء الرئاسة من عدم اعتراض نواب التكتل. فطُلب الى هؤلاء إعادة فتح الموضوع في الجلسة المسائية، وطلب النائب جبران باسيل الكلام لهذه الغاية، داعياً الى تحديد المفعول الرجعي لسريان القانون الى عام ١٩٨٩. وكان واضحاً لعدد من النواب أن هذا الطلب يرمي الى تصفية حسابات مع القوى السياسية الموجودة في الحكم منذ ذلك التاريخ بهدف تحميلها مسؤولية الانهيار. وقد طلب النائب مروان حمادة الكلام داعياً إلى أن تبدأ المهلة من عام ١٩٨٨ أي العام الذي تولّى فيه عون رئاسة الحكومة العسكرية. وبعد سجال حول هذه النقطة، تدخّل رئيس المجلس حاسماً الأمر إذ قال “لسنا ضد المفعول الرجعي ولكن بما أن التصويت قد تم يمكن للمعترضين الآن أن يتقدّموا باقتراح قانون جديد”. عند هذا الحدّ انتهى النقاش، ولكن لم ينته الاعتراض العوني الذي وجد في ردّ القانون مجالاً لتجميده.

لكن المفارقة أن أجواء الرئاسة لم تكن توحي بالتوجّه الى ردّ القانون، إذ ينقل عن أحد نواب التكتل قوله في مجلس خاصّ لدى سؤال أحد الديبلوماسيين له عن مصير القانون، أن الرئيس وقعه ولكنّه تراجع عنه بعدما حلّ عليه الروح القدس!

في موازاة ذلك، كانت لافتةً زيارة نائب رئيس المجلس النائب في تكتل “لبنان القوي” الياس بو صعب لبعبدا ومناشدته رئيس الجمهورية التوقيع، كذلك رئيس لجنة المال والموازنة إبراهيم كنعان الذي كان قد أكد أمام بري أن الرئيس يتجه الى التوقيع، ما يشي عملياً بأن هناك اختلافات في الرأي حول مقاربة هذا الملفّ المهمّ والحسّاس. ذلك أن قرار عون ردّه لم يعط إشارات إيجابية، كما الأسباب الموجبة للردّ، إذ تقول مصادر مطلعة إنه كان يمكن للرئيس أن يرفق توقيعه بطلب الأخذ بملاحظات الصندوق، كما بالنسبة الى مسألة المفعول الرجعي التي يعلق عليها أهمية بحيث يشترط على البرلمان إعادة النظر في القانون من دون أن يعطّل تنفيذه.

ويلاحظ أن الأسباب المعللة للردّ مستقاة في معظمها من ملاحظات صندوق النقد باستثناء ما يتصل بمسألة المفعول الرجعي التي أورد تعليلها الردّ كالآتي: “بما أن ظروف الأزمة الاقتصادية والمالية التي يمرّ بها لبنان تقضي لتأمين نجاح التعافي، بالرجوع بتاريخ تطبيق أحكام القانون موضوع طلب إعادة النظر إلى فترة تغطي على الأقل المدى الزمني المسبّب للأزمة(..)” والسؤال: ما هو المدى الزمني المسبّب للأزمة وفق فريق العهد؟ وهل يبدأ من التسعينيات تاريخ تولّي الرئيس الراحل رفيق الحريري السلطة أم من الـ٨٨ تاريخ تولّي عون الحكومة الانتقالية؟

والسؤال: ما مصير القانون في مثل هذه الحال، وهل يسلك طريقه بعد انقضاء المهلة المحدّدة بالدستور بشهر لسريانه؟

تعطي المادة 57 من الدستور لرئيس الجمهورية حقّ طلب إعادة النظر في القانون المُحال إليه لمرّة واحدة ضمن المهلة المحدَّدة لإصداره. وإذا قرّر الرئيس ممارسة هذا الحق، يصبح في حلّ من إصدار القانون الى أن يوافق عليه المجلس بعد مناقشة ثانية وإقراره بالغالبية المطلقة من مجموع الأعضاء الذين يؤلّفون المجلس، أي 65 نائباً. أما في حال انقضاء المهلة من دون صدور القانون أو إعادته الى المجلس، فيصبح نافذاً. ومع استعمال رئيس الجمهورية حقه، يعود الى رئيس المجلس إدراجه في جلسة عامة لإعادة النظر فيه أو بالإصرار عليه عبر إعادة التصويت. وفي هذا السياق، علم أن الرئيس برّي قرّر إحالته الى لجنة الإدارة والعدل لإبداء الرأي ليصار على أساسه إلى اتخاذ القرار.

 

سابين عويس – النهار