يبقى كلام السيد نصرالله مُهمّاً مَهما تكررت إطلالاته. ومليئةٌ بالمعاني الجولة العامة التي اطلع من خلالها اللبنانيين و”جمهور المقاومة” اول من امس على الخطوط العريضة لسياسات حزبه المستقبلية. وإذ تميزت كلمة الأمين العام لـ”حزب الله” بالوضوح والصراحة وندرة المضمر، فإنها سقطت أحياناً في تناقضات أو انتقائية تخدم الأهداف السياسية المباشرة أكثر مما تصب في معين الحقيقة، مع أن الشهادة لها جزء من التكليف!
لم تكن مواقف نصرالله مفاجئة لكنها ركَّزت قناعات ومفاهيم، وأزالت أوهام من يعتقد بإمكان الإلتقاء بين “مشروع المقاومة” و”مشروع الدولة”. فقد أُبلغنا بدون لبس أن “دولة المقاومة” هي المشروع، وأن الدولة التي نعيش في كنف دستورها رديفٌ موقت لخدمته في انتظار أن تذوب فيه. وما الحديث عن متابعة التدريب والتجهيز وتطوير المؤسسات الحزبية بالتوازي مع الحضور الضاغط في الحكومة والبرلمان والأجهزة الرسمية سوى انسجام مع خطة العمل على مسارين متكاملين مرجعيتهما قرار “حزب الله” أولاً وأخيراً، وإلا كيف يقرر الأمين العام السريان الدائم لمفاعيل ثلاثية “شعب، جيش، مقاومة” بالقوة “حتى ولو لم ترد في بيان وزاري”؟
وضمن المنطق نفسه لا يُفهم إبداء السيد نصرالله استعداده لمناقشة “استراتيجية دفاع” إلا من باب اللياقة والدبلوماسية على أبواب انتخابات رئاسية، إذ يناقض هو نفسه بإعلانه الصريح أنه جزء من “المحور الايراني” وجاهز لمعاودة التدخل العسكري في سوريا أو العراق أو في أي مكان للمحور المذكور مصلحة فيه؟
أما الانتقائية في اختيار الأحداث التاريخية التي ساقها السيد نصرالله فقد أطاحت السياق العام الموضوعي. فلم يكن بريئاً تذكير الجيش اللبناني بحوادث جسر المطار وكنيسة مار مخايل وحي السلم. فهو نوع من “فحص دم” جديد للمؤسسة الوطنية يلقي عليها ظلال الشك الدائم ويعزز فكرة ان الجيش غير مؤهل لمقارعة اسرائيل ولا للحفاظ على الوحدة الوطنية. وغير بعيد عن المنهج الانتقائي نفسه ضربُ الأمين العام صفحاً عن حادثة “شويَّا” وطيُّه صفحة “خلدة” وتعليقُه موضوع “الطيونة”، مع علمه الأكيد بأن حصة الحزب من المسؤولية في هذه الأحداث لم تكن قليلة إن لم تكن أكثر بكثير.
يؤكد كلام السيد نصرالله خطأ اعتقاد مواطنين كثيرين، ونحن منهم، بأن التشارك مع فريقه في العداء لاسرائيل كافٍ لبناء ارضية مشتركة تحوّل التناقضات العميقة الى خلافات سياسية تحت سقف الدولة الواحدة والدستور. ذلك ان مفهومه لكل مقومات قيام الدولة مختلف جذرياً عما توافق عليه اللبنانيون منذ إعلان دولة “لبنان الكبير”. هو يدعو الى التحاور لبناء “الدولة العادلة والقادرة”- عبارة حمَّالة أوجه الى حد كبير- مغفلاً الديموقراطية والنظام البرلماني وتداول السلطة، وهي مبادئ اعتمدها المؤسسون ثوابت تجسد الحرية التي هي جوهر وجود لبنان. ولا شك أن سوريا وايران هما النموذج الدولتي الأقرب الذي يفاخر فيه السيد نصرالله بدليل أنه لا يتوانى عن شكرهما ومدح رؤسائهما الراحلين والحاليين. أما النموذج الأبعد الحليف فهو حتماً نظام فلاديمير بوتين! فعلى أي أساس سيبنى وفاق وطني جديد؟ وأي رئيس سيجسر الهوة بين هويَّتين يفصلهما وادٍ سحيق؟
بشارة شربل – نداء الوطن