حتى في عز حقبات الانقسام والحرب التي تناوبت على لبنان لم تشهد الاستحقاقات الرئاسية تجربة بقدر هائل من المسؤولية المصيرية لإعادة الاعتبار الكاملة لدستورية الرئاسية كما ستشهدها هذه المرة. لا يتصل الامر بظروف الانهيار الأسطوري الذي سيكون النتيجة المثبتة واقعياً وتاريخياً لعهد الرئيس الثالث عشر للجمهورية فحسب بل أيضاً بأكبر “تمزق” ستواجهه خيارات الكتل النيابية المتحرّرة والرافضة ممارسات تقويض الدستور وانتهاكه والتلاعب بالنظام المنبثق عنه إذا قررت فعلاً وضع حد حاسم للانقلاب المتدحرج على الدستور منذ عهد إميل لحود، هذا إذا استثنينا التمديد لكل من الياس الهراوي ولحود تباعاً.
نقول التمزق لأن الكتل والنواب “المستقلين” بكل ما للكلمة من مضمون استقلالي حقيقي وليس مموّهاً وكاذباً ومخادعاً كما تنكشف حقيقة عدد من النواب الجدد من “أحصنة طروادة” لمحور 8 آذار، يترتب عليهم من الآن مواجهة اختبارات استثنائية في حماية دستورية الاستحقاق وحسم الخيار منها بشكل لم تواجهه سابقاً أي مجموعة نيابية معارضة ورافضة للانقلابات الناعمة والمشوّهة والمموّهة.
لنقل إن الأكثرية المعارضة الجديدة، التي فشلت حتى الآن في إثبات قدرتها على أن تكون أكثرية مجتمعة حول موقف واحد، قرّرت إنقاذ رئاسة الجمهورية لمرة أخيرة من الامتهان السياسي الذي دأبت عليه قوى من الخصوم في تحالف 8 آذار وخوض المواجهة الرئاسية المقبلة على قاعدة وخلفية وأرضية معركة إعادة الاستحقاق الرئاسي الى كنف الدستور.
هذا الخيار صار حتمياً الآن بكل ظروف الإنقاذ السياسي والوطني والدستوري فضلاً عن الإنقاذ الإصلاحي والمالي والاقتصادي بما يعني أن لبنان الآتي مع الانتخاب الرئاسي المقبل سيكون عنوانه تحرير رئاسته من انتهاكات الانقلابات السافرة المشؤومة التي مسخت الدستور والأصول الدستورية والديموقراطية وجعلتها هياكل شكلية أين منها ألاعيب نظام الأسد الأب والأسد الابن إبان الوصاية السورية.
يعني ذلك أن الأكثرية الجديدة مدعوّة أولاً الى وضع حد حاسم وحتمي لظاهرة الانقلاب الحيّ الذي يعيش في ظله لبنان منذ فرض الفراغ الرئاسي بعد عهد إميل لحود بما مهّد للاجتياح المسلح لـ”حزب الله” لبيروت وقلب ميزان القوى الداخلي وتحكيم اتفاق الدوحة بما سُمّي ولا يزال الثلث المعطل مع بنود تقويضية أخرى للأصول الدستورية تضمّنها ذاك الاتفاق القسري الذي وُضع تحت وطأة الترهيب الدموي المسلح وخنوع السلطة. ثم جاءت الضربة الدستورية الثانية الأسوأ إطلاقاً مع الفراغ المفروض بعد عهد الرئيس ميشال سليمان بما فرض قسراً، وبقوة كل الوسائل غير المشروعة، انتخاب ميشال عون رئيساً، وها هي النتائج الكارثية التي أفضى إليها ذاك الفصل الأكثر خطورة من الفراغ وتداعياته وفرض نتائجه على لبنان ونظامه وكل مصيره.
سيكون أمام النواب الرافضين لعودة أي من ألاعيب الانقلابيين اتخاذ خيارات لا يُحسدون عليها ولكنها الجراحة التي لا بدّ منها والتي تضمن منع جرّ البلاد الى متاهة فراغ رئاسي جديد كما توفير الظروف والتوازن السياسي الحتمي لانتخاب رئيس جديد وعدم الاضطرار الى اللجوء الى أبغض الحلال الدستوري أي تعطيل النصاب القانوني لمنع وصول رئيس آخر من “سلالة الممانعين”.
حتماً إنها ظروف بالغة التعقيد وبالغة الصعوبة وقد تكون مستحيلة إذا بقي “المقاومون” للأنماط الانقلابية على حالهم من التشتت الى حدود توسّل “الصلاة لتوحّدهم” كما تمنّى الدكتور سمير جعجع. ولكنها المعركة الحاسمة الوجودية بين الدستوريين والانقلابيين ولا نرى أنصاف حلول فيها.
نبيل بومنصف – النهار