لعلنا لا نغالي إن تراءى لنا مصير الجمهورية عشية بدء المهلة الدستورية لانتخاب “مفترض” لرئيسها الرابع عشر أشبه بتلك الحرائق المخيفة التي التهمت أجمل بقع بسكنتا وعكار والآخذة في الزحف الناري الى كل أنحاء البلاد التي كانت يوماً جوهرة الشرق الأوسط. لسنا في معرض سؤال أي سلطة أمنية عن تقصيرها أو عجزها أو إهمالها في عدم توقيف “مجرم” واحد بعد من مفتعلي إحراق بقايا الغابات في لبنان الذي صار حقيقة “لبنان المتفحم” بأفضال المجرمين والمافيات والكارتيلات على أنواعها. فالاقتصاص من مجرم يحرق أجمل بقع لبنان هنا وهناك صار من الأدبيات الغابرة القديمة تماماً كتلك الأدبيات البائدة التي سدّت آذان اللبنانيين لفرط سماعها منذ انفجر الانهيار في لبنان قبل ثلاث سنوات عبر المطالب “الخشبية” بالاقتصاص من الطبقة السلطوية والسياسية الفاسدة. “يتدحرج” لبنان الآن الى استحقاق ترسم حوله الكبائر والصغائر وما بينهما من سائر الرهانات فيما يكاد مشهد البلد يختصر أسوأ تراجعاته إطلاقاً في ما يتصل بصورة بقايا دولة، بل كأننا أمام احتضار الدولة تماماً في نزاعها الأخير قبيل منتصف ليل نهاية آب وأول أيلول.
هذه الحرائق التي كانت تلتهم بسكنتا وعكار ومن سينضمّ إليهما تباعاً ليست إلا صورة ناطقة مفجعة عن مآل دولة وعهد وحكومة ومجلس نيابي منتخب حديثاً وسلطات أمنية وسلطة قضائية يشكلون في مجموعهم الشهادة المفزعة عن “المكان الأخطر” الذي صار عليه لبنان في ظل هذه الدولة الفاشلة تماماً. لا يقتصر الأمر على رمزية الحرائق وتحويل ما كان “لبنان الأخضر” الى “لبنان المتفحّم” كوجوه أولئك البائسين الذين يقبعون على قلوب اللبنانيين حتى الإجهاز عليه، فالأمر أكبر من الرمزيات الى “تفحيم” شمولي في كل اتجاهات الحياة اليومية والتنكيد على الناس في كل ما يتصل بالبديهي والأساسي من حياتهم.
لذا ترانا نتساءل بإلحاح: كيف ستدار معركة رئاسية “مصيرية” يعلق عليها ما يصحّ ولا يصحّ من أثقال الرهانات الواقعية أو المضخمة، إن لم تحضر فيها وفي مرشّحيها أولاً وأخيراً “مواصفات” هذا البؤس المفجع الذي ضرب ويضرب اللبنانيين بكلّ تداعياته الساحقة؟ لم يسمع اللبنانيون بعد ما يوحي ويكفي بأن مواصفات السباق الى الرئاسة تبدأ وتمر وتنتهي بأهلية أي مرشح لمواجهة أفظع ما يعيشه لبنان أي إعدام الدولة فيه. كيف سيتم إحياء إيمان اللبنانيين الذي قتل وصرع تحت وطأة أسوأ العهود والسلطات وأسوأ الطبقات السياسية بأن جمهوريةً ما ستعود مع رئيس ودولة لمجرد انتخاب رئيس؟ لن يكفي أبداً الوهم بأن إتمام الاستحقاق سيكون مفتاح الدخول في عصر النجاة من الحريق الأكبر لأنه لا الرئيس المفترض، إذا انتخب، سيحمل عصا موسى السحرية، ولا الظروف الموروثة من أخطر انهيار عرفه بلد في العالم في القرنين الأخيرين ستكون “رحومة” لإعادة إحياء الثقة العجائبية السريعة للبنانيين بمشروع الدولة. لا يعني هذا أننا نستسلم لعبثية سياسية تسقط كل الإيجابيات متى حانت فرصتها. لكن قبل ذلك يتعيّن على المنادين لنا بالإيمان السحري بأن الاستحقاق الآتي سيحمل معه تلك الوصفة العجائبية، أن يتمهّلوا في الحماسة المفرطة وأن يتواضعوا في إسباغ الأحلام.
هذه الجمهورية المحترقة عشيّة الاستحقاق لم تعد تحتمل مناورات التكبير والتضخيم والتصغير فيما يغطي دخان حرائق الغابات كما حريق الصوامع في المرفأ كل لبنان.
نبيل بومنصف – النهار