تملأ صور ضحايا انفجار 4 آب 2020 جادة شارل حلو ومحيط المرفأ إيذاناً بإحياء الذكرى الثانية لزلزال العصر الذي ضرب بيروت وأثكل لبنان حاصداً ما يفوق، بعد تعاقب حالات الوفاة تباعاً، 220 ضحية، فضلاً عن الدمار والجرحى والكوارث الناشئة عنه. ما يواجهك الآن، في اللحظة التي تقترب فيها من الذكرى، صور تبعث فيك الرهبة والأبعد من الحزن الغائر لدى تطلعك الى صور شهداء راحوا في غفلة مرعبة هبطت فيها أسوأ مذبحة جماعية عرفتها بيروت ولبنان ولا تشبه أياً من أبشع المذابح الحربية والهمجية القتالية. في كل صورة كما تنبئ الوجوه صاحبة الشهادة، قصة إنسان ترك فجيعة لا تزال تتراكم بفصول مأسوية ليس على الصعيد الإنساني الشخصي الخاص للضحية وعائلته وعارفيه في ظل هذا “الإعدام” المرعب الذي هبط على ضحايا الانفجار أينما كانوا منتشرين فحسب، بل أيضاً على مستوى تحلل لفكرة “العدالة” التي تظلل صور الضحايا – الشهداء كعنوان عام لا يظلل الذكرى والاستعدادات لإحيائها فحسب بل من خلالها وعبرها مصير لبنان برمّته.
يصادف أنه في “محيط” ذكرى 4 آب تدور أعنف وأشد معاناة لبنانية عارمة غير مسبوقة مع واقع عدالة منهارة ومفكّكة ومنتهكة من أبسط يوميات اللبنانيين الى أكبر الملفات والقضايا والمحاور المصيرية التي يتوقف عليها الإيمان بعودة استفاقة هذا البلد “القتيل”. لقد نجح “السفاحون” الذين تناوبوا تباعاً ولا يزالون على قتل رهان اللبنانيين على العدالة لا في شل التحقيق في انفجار المرفأ فحسب بل قبل ذلك بكثير في سحق إمكانات بلوغ القضاء اللبناني أصلاً أي حقيقة من حقائق الاغتيالات والجرائم المرتكبة لتقويض كل إمكانات جعل لبنان دولة قانون في المقام الأول. بدا ثقيلاً ومخيفاً الآن كم هو مكلف الاستسلام لواقع أن لبنان يستحيل عليه أن يجر قاتلاً تسلسلياً الى المحاكمة، إذ إن الأمر لا يتوقف عند شهداء الاغتيالات والتصفيات الإجرامية الإرهابية، فردية كانت أو جماعية، بل أيضاً عند سياسات لا تختلف تداعياتها عن الاغتيالات الجماعية.
هذا الذي تبدأ صور الضحايا – الشهداء عند مدخل بيروت في “إخبارك” إيّاه، إن كنت ساهياً عنه. قصة عدالة هي صورة طبق الأصل عن بلد منهار يكابد إنسانه منذ تفتح عينيه على صباحات الانهيار حتى إغماضهما في العتمة الكالحة التي تقدّمها وزارة الطاقة “الخالدة” ومؤسسات السياسة الخارقة لسلطة جائرة تحكّمت برقابنا، كل هذا النعيم الذي تركه خلفهم شهداء المرفأ، فلا هم بلغهم خبر الانتقام الحلال لقتلهم المفجع في محكمة إحقاق الحقوق ولو بعد الوفاة، ولا نحن سمعنا أن عدالة ستتحقق يوماً ونحن أحياء تجعلنا رعايا بلد عاد يشبه دول العالم المتمدّن المتحضّر.
ولعلّ الأشدّ قسوة في ما تطالعك به صور الضحايا – الشهداء أن ترى فيهم اختصاراً لكل مناطق لبنان في مسافة قصيرة تستلزمها الصور المنشورة بتتابع من دون تمييز بين ضحية وضحية حيث الشهادة توحّد كما تتوحّد معها مناطق الانتماء والانتساب وتذوب الطوائف والمذاهب والاتجاهات التي حملها أصحاب الشهادة وكانت من مآثر أعمارهم التي قصفها الانفجار الأعتى من كل انفجارات لبنان وحروبه. يحصل ذلك والبلد متجه قدماً وبسرعة قياسية نحو تفكّك لم يعرف مثيلاً له في أشد حقبات حروبه واحتلالاته ومآسيه السابقة، بما يثبت أن الانهيار الذي حققه الجوع والفقر والإذلال والكفر بالوطن ذهب بلبنان الى حيث قد يستحيل إرجاعه منه.
نبيل بومنصف – النهار