بموجب الدستور، وتحديداً المادة 80 منه التي نصت على تشكيل المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، وعلى سنّ قانون خاص بأصول المحاكمات لديه، وهو القانون الذي يرعى إنشاءه ورقمه 13 وقد صدر في العام 1990، فقد اكتمل عقد هذا المجلس بعدما انتخب المجلس النيابي الجديد في اول جلسة تشريعية له اول من أمس النواب السبعة الأعضاء بالتزكية وسط اعتراضات عدة ابرزها جاء على لسان رئيس كتلة الكتائب النائب سامي الجميل والنائب ميشال الدويهي الذي قال في تغريدة انه قاطع انتخاب أعضاء المجلس انطلاقاً من قناعته بان الدور المرسوم له لا يهدف سوى الى عرقلة التحقيق في تفجير المرفأ، وان العدالة ليست على جدول اعمال معظم الكتل التي تتلطى خلف المحاكم الاستثنائية، مؤكداً العمل على إلغاء تلك المحاكم.
من جانبه، وصف الجميل المجلس بكلام مباشر وجّهه الى رئيس المجلس نبيه بري، بالعقيم ومقبرة للمحاسبة، مطالباً بإحالة القضايا الى القضاء العادي. وكان رد بري كفيلاً بوضع اليد على جرح هذا المجلس المفتوح منذ إنشائه على خلفية الاعتراضات الدائمة حيال جدوى إنشائه ووجوده طالما انه لم يمارس دوره أبداً ولم يتلقَّ أية احالات باستثناء اثنتين منذ تاريخ إنشائه.
اجاب بري الجميل بدعوته الى العمل على تغيير الدستور، وذلك في اشارة واضحة منه الى ان إلغاء المجلس يحتاج الى تعديل دستوري، لأن ما أقر في الدستور وصدر في قانون لا يلغى الا بالدستور والقانون.
لا تأتي اثارة هذا الملف من فراغ، بما ان المجلس النيابي أنجز انتخاب أعضائه في اشارة منه الى حرصه على ممارسة صلاحيته في تفعيل عمل هذه المؤسسة الدستورية الاستثنائية في مهمتها وصلاحياتها وآلية عملها.
تدرك الكتل – المفاتيح وصاحبة القرار في البرلمان ان مجلس محاكمة الرؤساء والوزراء لا يعدو كونه إصلاحا من حيث الشكل، ولكنه لزوم ما لا يلزم في الجوهر والمضمون. فالمجلس الذي يشكل محكمة خاصة استثنائية يقفز فوق عمل القضاء العادي وينتقص من دوره وسيادته واستقلاليته، من دون ان يمارس في المقابل الصلاحيات المنوطة به.
منذ تأسيسه، لم يشهد المجلس إصدار اي حكم او حتى انه لم يتلق أية احالة باستثناء اثنتين، كانت الخلفيات السياسية واضحة في اسبابهما الموجبة. أولى الاحالتين ارتبطت بالرئيس الأسبق للجمهورية أمين الجميل (1993) على خلفية الاتهامات التي طاولته بملف طائرات البوما للجيش، والثانية متصلة بوزير الطاقة الأسبق شاهي برصوميان (1999). لم تنته الاحالتان الى اي قرار او حكم، ما ادى الى انطباع عام بأن المجلس عاجز عن تجاوز الحسابات السياسية والطائفية التي تحكمت ولا تزال بعمله.
لذلك، لا يبدو الكلام عن تفعيل المجلس اليوم صالحاً، خصوصاً بعد التجربة الفاشلة والفاضحة التي خاضها ملف التحقيق في انفجار مرفأ بيروت، الذي أعاد إحياء المجلس من باب استعماله مخرجاً او ذريعة لكفّ يد المحقق العدلي القاضي طارق البيطار في طلبه الى المجلس النيابي رفع الحصانة عن ثلاثة نواب بصفتهم الوزارية السابقة، وهم وزراء الداخلية نهاد المشنوق والمال علي حسن خليل والاشغال غازي زعيتر.
جُمد التحقيق وعُلق عمل القاضي، وقامت الدنيا ولم تقعد وصولاً الى حد تعليق جلسات مجلس الوزراء من قِبل وزراء “الثنائي”، منعاً للتحقيق، ولم يحل الملف الى المجلس الأعلى لمحاكمة هؤلاء، ما يطرح أسئلة مشروعة حول دور هذا المجلس، عمله، صلاحياته، والهدف من إنشائه، وهل يمكن تفعيله أو يجب الدفع نحو إلغائه؟
مصادر قانونية رفيعة تستغرب الجدل الذي يثار حول هذا المجلس الذي وُلد من الأساس ميتاً، بعدما كُبّل بآليات عمل وشروط تعجيزية غير قابلة للتطبيق ولا تتيح تسهيل عمل المجلس او تفعيله.
فالمجلس المؤلف من أعضاء من المجلس النيابي ومن السلك القضائي، لا يتمتع بفعل تركيبته بأي فعالية على مستوى القدرة على المساءلة او المحاسبة او فرض العقوبة.
فهو بداية لا يتمتع بصلاحية المبادرة، أي انه عاجز عن التحرك ما لم يتلق احالة الملفات من قِبل المجلس النيابي، الجهة المخولة القيام بالإحالة، ما يعني عملياً ان رمي كرة المسؤولية على هذا المجلس لا يصح ما دام لا يتمتع بالحق في التحرك.
نقطة ضعف اخرى تعطل عمل هذا المجلس، وتتصل بآلية التحقيق مع الأشخاص المتهمين. فاستدعاء وزير يتطلب تصويت المجلس النيابي بغالبية الثلثين، وهذا في حد ذاته شرط تعجيزي في ظل تعذر اجماع الثلثين على استدعاء كهذا. وهنا تبرز الخلفية السياسية والطائفية المستحكمة بعمل المجلس. التسييس الذي تخضع له الملفات المطروحة كما التطييف، يؤديان الى شلّ عمل المؤسسات، بما يجعل الحاجة اليها تنتفي، فترتفع الأصوات المطالبة بإلغائها.
وفي رأي المصادر ان انشاء المجلس كان من اهم الإنجازات الإصلاحية لوثيقة الطائف، وهو مأخوذ عن الدستور الفرنسي، ولكن مع الأسف، عندما تدخل السياسة والطائفية ولعبة النفوذ والمحاصصة، تقتل اي إصلاح وأي انجاز. وهذه في رأيها حال المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، مضيفة انه طالما ستبقى هذه الخلفيات متحكمة بمفاصل العمل المؤسساتي في لبنان، فلن تشهد البلاد قرارات وأحكاماً مستقلة.
وتسأل: هل يجوز مع كل الازمات والفضائح التي شهدها لبنان في الأعوام الثلاثة الماضية، لم نرَ مسؤولاً واحداً وراء القضبان؟ هذا الواقع المؤلم والمقلق في آن يؤكد ان المطلوب ليس تغيير القوانين او الدستور، بل تغيير القيّمين على تطبيقها لأن العلة فيهم وفي مقاربتهم للدستور والقوانين المرعية. وختمت المصادر بالقول ان الكرة في مرمى المجلس المنتخب حديثاً وبوجوه تغييرية جديدة، ان يدفع نحو وضع المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء امام مسؤولياته فيحيل اليه الملفات المطلوب التحقيق فيها، وإلا يصح ما قاله النائب جميل السيد الفائز بالتزكية بعضوية المجلس، ان ليس المجلس من يأتي بالملفات، بل تحوّل اليه من مجلس النواب فيتحرك على اساسها، علماً ان البرلمان لا يجبر على اعطائه اي ملف، واذا لم يتحرك سابقاً، فالخلل كان من المجلس النيابي وليس منه.
في الخلاصة، استُكمل عقد المجلس، ولم تكتمل مهماته، ومصيره لن يكون أفضل من حال غالبية المؤسسات الدستورية في البلد التي ضُربت واُنهكت وشُلّ عملها تمهيداً للوصول الى القعر الذي بلغه.
سابين عويس – النهار