حين جرى انتخاب أعضاء المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء خلال الجلسة التشريعية يوم الثلثاء، أحس ملايين اللبنانيين بالإهانة. أحسوا كم أن الأمر يمثل اعتداءً على مشاعرهم الغاضبة تجاه مؤسّسة مجلس النواب التي آثرت أن تخوض معركة التغطية على مجرمي “نيترات الأمونيوم” الذين تسبّبوا بفعلتهم الدنيئة في قتل أكثر من مئتين وخمسين مواطناً، وجرح ستة آلاف، وتدمير مئات البيوت والمنازل. هذه المعركة خيضت بالتكافل والتضامن بين معظم القوى السياسية التي كانت تشكل أغلبية وازنة، في مواجهة سافرة مع مئات العائلات الموجوعة وملايين اللبنانيين الغاضبين من سلوك طاقم يتحد كرجل واحد عندما يكون أمام استحقاق المحاسبة. وقد كانت المواجهة وقحة الى أبعد الحدود مع التحقيق العدلي حيث اجتمعت الأضداد في السياسة، كاشفة حجم التواطؤ في ضرب أسس العدالة في وطن اللاعدالة.
هنا دُفنت الخلافات السياسية، والطائفية، والعقائدية تحت أقدام من قيل إنهم يمثلون الشعب. لقد باتت أم المؤسسات محكومة مثل غيرها من المؤسسات الدستورية بيد فولاذية، من طغمة الاغتيالات، والتفجيرات، والغزوات، وحروب الغير بدماء اللبنانيين. من هنا شعور الكثيرين أن انتخاب أعضاء المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء كان مجرد مسرحية سمجة ووقحة في زمن طغيان الجريمة المنظمة سياسياً، وأمنياً في البلد. كل هذا فيما يستمرّ الحريق في قضم أساسات الأهراء، وكأن جهة ما عملت في الظلام لإشعاله استكمالاً لتنفيذ مخطّط هدمها، وإقفال ملفّ لو تسلمته جهة دولية مثل لجنة التحقيق في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري لتوصّلت أقله الى تحديد المسوؤليات، والكشف عن هؤلاء المجرمين الذين أتوا بالمواد القاتلة الى مرفأ بيروت، وخزنوها سبعة أعوام متتالية، وتمتّعوا بغطاء أمّنته جميع القوى الفاعلة في السلطة. أيُعقل أن تذهب جريمة بحجم جريمة المرفأ بلا محاسبة؟ أيعقل أن يبقى لبنان باستمرار بلد الإفلات من المحاسبة والعقاب فقط لأن الطرف المعنيّ يمتلك قوة الإيذاء الفائقة، ويتحكم برقاب معظم القوى السياسية المتواطئة أو المستسلمة؟ هكذا حصل في جريمة اغتيال الحريري. حُدّد عدد من الفاعلين المباشرين، وحُدّدت الجهة التي ينتمون إليها ويأتمرون بها. فووجهت الأحكام المبرمة بتقديس المجرمين وجعلهم فوق البشر. والمشكلة اليوم هي في هذه القدرة التي يتمتع بها من يدّعون الوقوف مع الحق، أو بمواجهة مشروع تدمير لبنان، وحشر أهله في سجن كبير على التأقلم مع هذا الواقع الرديء. إنها سخرية القدر التي جعلت من لبنان مرتع المافيات، والميليشيات، والجريمة المنظمة، كلها بحماية أجهزة الدولة. تماماً كما كان يحصل في كولومبيا أيام كارتيلات المخدّرات في ميديلين وكالي، حيث كانت المافيا تتحكم بالأجهزة وبعدد كبير من أركان السلطة السياسية في العاصمة بوغوتا!
لقد حصلت الانتخابات في أيار الماضي. انتُخب مجلس جديد. إلّا أن التغيير المنشود لم يكن على الموعد، إلّا بشكل جزئي وخجول. لكن التغيير عبر المؤسسات ليس كل التغيير. لقد تراجع الضغط الشعبي، إما بسبب القمع البوليسي الذي مارسته الأجهزة الأمنية والعسكرية نيابة عن القوى السياسية المعنية، أو بسبب القمع المباشر الذي مارسته ميليشيات السلاح غير الشرعي في البلد. وربما كان الإحباط واليأس سبباً إضافياً في توجّه اللبناني الى خيار الهجرة وترك هذه البلاد لهؤلاء الذين دمّروا أحلامهم ومستقبل أولادهم. لكن في النهاية لا بدّ من تغيير آتٍ عبر المؤسسات والشارع معاً. فبغياب الشارع لن يكون ثمّة تغيير مؤسساتي في ظلّ سيادة منطق الإفلات من المحاسبة والعقاب.
علي حمادة – النهار