الهوات التي لا تردم

إن المنحى المأساوي الذي يتخذه تدهور الاحوال المعيشية في البلاد، لا يقابله إلا لامبالاة الاوليغارشيات السياسية وانطواؤها على حساباتها السلطوية والمالية وملازمتها لأنديتها المغلقة المحصنة بارتباطات وتبعيات إقليمية، ركزت واقع الاستلاب الذي يعيشه اللبنانيون منذ نهاية الحرب الاهلية.

إن المتابعة الأولية للاحداث السياسية كافية لانبائنا عن هذا الطلاق الذي تؤكده حيثيات الحياة العامة منذ بداية الثورة المدنية في تشرين الأول ٢٠١٩: لقد انقضت سنتان ونيف على بداية الأزمات المالية وما تبعها من انهيارات اقتصادية واجتماعية معممة، ولم نشهد حتى الآن أية مقاربة جدية لسبل معالجتها، أو تحسسا بالحد الأدنى لمفاعيلها الكارثية على مستوى المآسي الإنسانية المستجدة، وتدمير التوازنات البنيوية، الاقتصادية والاجتماعية والتربوية، والاستهداف المتعمد للذخر الاجتماعي اللبناني الذي بني على مدى مئة عام. ناهيك عن التواطؤ الموضوعي بين مصالح الاوليغارشيات الحاكمة، والعمل الانقلابي الذي تديره الفاشيات الشيعية وما نشأ عنه من أزمات مديدة قضت على فرص التعافي، وفراغات حكومية مديدة، أدخلت البلاد في دوامة الأزمات المعيشية المفتوحة التي قضت على كل المكتسبات التي جعلت من لبنان نموذجًا “للمجتمع المنفتح” من خلال ديناميكيات التثاقف والتحديث بكل مندرجاته، والترقي الاجتماعي،والتعددية الثقافية، ودولة القانون، وعلى الرغم من كل المفارقات التي رافقت تاريخه السياسي والاقتصادي والاجتماعي المعاصر، والمحاولات الانقلابية التي سعت الى تدمير حيثياته الوطنية والديموقراطية وخصائصه الثقافية لحساب سياسات النفوذ الاقليمية، والانظمة السلطوية والتوتاليتارية على تنوع متغيراتها السياسية والعسكرية والاسلامية.

الجريمة التي ترتكب بحق اللبنانيين في هذه الايام ليست استثنائية، بل تندرج في سياقات انقلابية عرفناها بالسابق لجهة طبيعة استهدافاتها، أما سمة الأزمة الحالية فهي النهيلية المعلنة التي تدعو جهارا الى تدمير الإرث الوطني والليبرالي والديموقراطي، وتستهدف السلم الاهلي، وتغيير الجغرافية السياسية اللبنانية، انطلاقا من سياسة انقلاب شيعية تديرها ايران على مستوى المنطقة، حيث يلعب فيها حزب الله دورا أساسيًا. إن الاستنكاف عن ايجاد الحلول المهنية للأزمات المالية ومترتباتها ليس أمرًا عارضًا ولا وليد الصدفة، بل فعل إرادي يستهدف الموازين البنيوية للاجتماع السياسي اللبناني، وشرعية الكيان الوطني اللبناني، وتغيير الموازين السكانية والمدينية كما ظهره انفجار المرفأ الارهابي، وصولا الى تغيير الى الجغرافية السياسية. نحن امام سياسة إفقار وتجويع وتدمير للبنيات الاقتصادية والاجتماعية والايكولوجية (بمدلوليها الجغرافي والبشري)مبرحة، تتلازم مع سياسة التقويض المالي التي أسست للتداعي المنهجي الذي أصاب القطاعات الاقتصادية وآليات تقسيم العمل المرادفة. إن أبشع ما في الواقع الحاضر الذي نعيشه هو إرادة الشر المعلنة التي لا تخفي مقاصدها وتسعى الى تدمير مقومات الوجود اللبناني على تعدد مندرجاته، والنيل من كرامة اللبنانيين من خلال نهب أموالهم وتدمير أسباب عيشهم، وإذلالهم في تفاصيل حياتهم اليومية. الجواب يحتم علينا ان نقرن مقاومتنا السياسية والمدنية لهذه الهمجية غير المتبصرة، بإعلانات مبدئية غير قابلة للمساومة نستمدها من الشرعة العميمة لحقوق الانسان: كرامة الإنسان هي مصدر الحقوق الأساسية ومنشأ المؤسسات الدستورية التي يستوي على أساسها الانتظام العام في الانظمة الديموقراطية، ولا تسوية ممكنة بين “المجتمع المنفتح واعدائه”.

 

شارل الياس شرتوني