لم يكن ينقص حكومة الرئيس نجيب ميقاتي وعموم الطبقة السياسية إلّا فضيحة تأخير انطلاق جلسة الثقة النيابية أمس لأكثر من 45 دقيقة بسبب انقطاع التيار الكهربائي وعدم تحضير «خطة ب» جاهزة لتتعمّق الشكوكُ حيال مدى «أهلية» وقدرة السلطة في لبنان على إدارة أعتى أزمةٍ تضرب «بلاد الأرز» وصُنّفت من بين أسوأ ثلاث أزمات عَرَفهَا العالم منذ 1850.
فمن قصر الأونيسكو الذي يعتمده البرلمان لعقد جلساته لزوم التكيّف مع «زمن كورونا»، أبت الحكومة الوليدة إلّا أن يكون «أول دخولها عتمة على طولها» أطْبقت على مجمل جلسة الثقة التي طغى انقطاع الكهرباء على مداولاتِها التي لم تَخْلُ بدورها من سورياليةٍ، وسط مشاداتٍ انزلقت إلى «تحدي الرجولة»، واستحضار الموسيقار الراحل ملحم بركات في أغنيةٍ (من فرح الناس) بُثت لـ «رشْق» تشكيلة «المحاصصة»، وصولاً إلى تكرار «معزوفة» عناوين واقتراحاتِ حلولٍ وكأنها «عودة بالزمن» لِما قبل الانهيار، وتبادُل اتهامات بين كتلٍ برلمانية لم تعُد «تتحدّث إلّا انتخابات» (نيابية).
ومنذ انكشاف أمر عدم تأمين التيار الكهربائي في «الأونيسكو»، بسبب عطلٍ حال دون توفيره من «مؤسسة كهرباء لبنان» في موازاة عدم وجود كمية من المازوت الضروري لتشغيل أحد المولدات الخاصة، حتى صارت الحكومة، التي تصدَّر بيانها الوزاري شعارُ أنها «انبثقت لتضيء شمعةً في هذا الظلام الدامس وتطلق شعلة الأمل بعزم وإرادة للقول إننا قادرون»، في مرمى سِهام مزدوجة:
أولاً من اللبنانيين الذين بدا وكأنهم «انتقموا» على مواقع التواصل الاجتماعي من الوزراء والنواب الذين «تذوّقوا الحرّ» ومعنى ترْك أبناء «بلاد الأرز» فريسة «العمى» الذي جعل حياتهم اليومية شبه مستحيلة.
وثانياً من تشظياتِ الصراعات السياسية بين مكوّناتها التي منحتْها الثقة (ناهزت 85 نائباً)، سواء «المشروطة بتنفيذ الإصلاحات اللازمة وإلّا ننزعها لاحقاً» كما أكد رئيس تكتل «لبنان القوي» جبران باسيل (صهر الرئيس ميشال عون)، أو تحت عنوان «إعطائها فرصة وتأمين كل ظروف النجاح لها» وفق ما أعلنت كتلة رئيس البرلمان نبيه بري.
ولم تكتمل عناصر «الإثارة» التي سبقت وواكبت إعادة التيار الى «قصر الأونيسكو»، إلّا بإشاعة أن صهريجاً (رُصد يصل الى محيط الاونيسكو) كان محمَّلاً بمازوت إيراني (من الذي تم إدخاله لبنان في الأيام الأخيرة لمصلحة «حزب الله» عبر سورية) هو الذي «أنقذ الجلسة»، ما جعل إعلاميين وناشطين يحوّلون الأمر مادة تهكُّم ومنطَلقاً لأسئلة من نوع «هل يمكن واشنطن أن تفرض عقوبات على كل النواب الحاضرين»؟ قبل أن تُصْدِر الأمانة العامة لمجلس النواب بياناً نفت فيه «ما يتم تداوله عن إضاءة الجلسة العامة بالمازوت الايراني»، مؤكدة «أن كل ما ورد في هذا الإطار غير صحيح على الاطلاق وان العطل الكهربائي الذي طرأ قد تم إصلاحه».
ومع تَجاوُز «لغم الكهرباء» أقلعت جلسة الثقة بتلاوة ميقاتي البيان الوزاري الذي استعاد فقرة «المقاومة» نفسها التي اعتُمدت في الحكومات السابقة في عهد عون لجهة «تأكيد حق المواطنين اللبنانيين في المُقاومة للاحتلال الإسرائيلي وردّ اعتداءاته واسترجاع الأراضي المُحتّلة»، وأكد «التزام الحكومة إجراء الانتخابات النيابيّة في موعدها (مايو 2022) كما الانتخابات البلدية والاختيارية».
وفي الشق المالي الذي يُعتبر محورياً في مهمة الحكومة، تعهّد ميقاتي «استئناف التفاوض الفوري مع صندوق النقد الدولي للوصول إلى اتّفاق على خطة دعم من الصندوق ووضع خطة لإصلاح القطاع المصرفي وإعادة هيكلته حيث يلزم، وتنشيط الدورة الاقتصادية بما يساهم في تمويل القطاع الخاص بفوائد مشجعة مع إعطاء الأولوية لضمان حقوق وأموال المودعين»، معلناً «العزم على تصحيح الرواتب والأجور في القطاع العام بمُسمياته كافة في ضوء دراسة تعدّها وزارة المالية تأخذ بعين الاعتبار الموارد المالية للدولة ووضعية المالية العامة، وبالتوازي تفعيل عمل لجنة المؤشر وإجراء ما يلزم بهدف تصحيح الأجور في القطاع الخاص».
كما شدّد ميقاتي على وجوب تثمين المُبادرة الفرنسيّة والالتزام ببنودها كافة بكل شفافية وبتوصيات الإصلاح والتعافي وإعادة الإعمار، مؤكداً «توجيه سياسة الدعم الحالي وحصره بمستحقيه من المواطنين اللبنانيين المقيمين والانطلاق نحو سياسة اجتماعية قادرة على سدّ الثغر الاجتماعية».
وفي ما يتعلّق بكارثة انفجار مرفأ بيروت، أكد «حرص الحكومة على استكمال كُل التحقيقات لتحديد أسباب هذه الكارثة وكشف الحقيقة كاملةً ومُعاقبة جميع المُرتكبين»، وأضاف: «تعتزم الحكومة العمل مع مجلس النواب لإجراء كل ما يلزم في شأن الحصانات والامتيازات وصولاً إلى تذليل كل العقبات التي تحول دون إحقاق الحق وإرساء العدالة».
وبعدها انطلقت كلمات النواب التي حاول بري حصْرها بحيث يتحدّث عن كل كتلة ممثّل لها مهدداً «اليوم (امس) سنصوّت على الثقة ولو بقينا لمنتصف الليل».
ولم تحمل المداخلات أيّ مفاجآت، ما خلا طلب النائب جميل السيد، خلال مداخلته من رئيس مجلس النواب بث أغنية لملحم بركات («من فرح الناس»)، فاشترط عليه بري مازحاً أن يغنيها بصوته، لكن السيّد، شغّل هاتفه، ورفع صوت الأغنية، فقال له بري، «قلت لك بصوتك»، ليوقف السيد بثها ويتوجّه إلى ميقاتي «بأن حكومتك لم تأتِ من معاناة الناس بل هي نتيجة محاصصة».
كما حملت كلمة رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل، الذي كانت له اليد الطولى في استيلاد الحكومة «قيصرياً» ويُعتبر صاحب الحصة الأكبر فيها «ضمناً» (عبر وزراء رئيس الجمهورية الثمانية و«أكثر»)، إشاراتٍ اعتُبرت معها وكأنها «بيان وزاري موازٍ» وصوّب في بعضها على رئيس الحكومة في ملف الكهرباء مثلاً وحلوله «المعروفة» على قاعدة «بناء المعامل واستخدام الغاز» في ما بدا ربْط نزاع مبكّراً في هذه القضية كما التدقيق الجنائي الذي فجّر سجالاً بين باسيل ونائب رئيس البرلمان ايلي الفرزلي (كان في تكتل باسيل) بعد اتهام الأول نواباً بتحويل أموال إلى الخارج بعد انكشاف الأزمة المالية وهو ما رفضه الثاني على قاعدة عدم جواز تعميم الاتهام و«ليُسمَّ هؤلاء النواب»، وصولاً إلى دخول نواب على الخط متحدّين باسيل «إذا كان رجّال أن يسمّي».
وإذ بدت جلسة الثقة التي عُقدت على مرحلتين قبل الظهر وبعده وانفردت فيها كتلة «القوات اللبنانية» بحجب الثقة مع بعض النواب المستقلين، عيّنة عما يتربّص بالحكومة ابتداءً من اليوم، استبق ميقاتي نيل الثقة بمواقف نقلها عنه موقع «لبنان 24» أكد فيها أن «الملف الأكثر إلحاحاً هو وقف إذلال الناس بالطوابير وتأمين المواد الأساسية والدواء، ومعالجة أزمة الكهرباء والمحروقات، خصوصاً على أبواب شتاء سيكون قاسياً».
واستغرب رئيس الحكومة استمرار الحديث عن ثلث معطل داخل الحكومة «لأننا جئنا للعمل وليس للتعطيل، وهذا الثلث – الوهم الذي يتحدثون عنه غير موجود»، كاشفاً «أن الأيام القليلة التي تلت تشكيل الحكومة كانت حافلة باجتماعات العمل لرسم إطار المعالجات المطلوبة لكل الملفات وبمشاركة الوزراء المختصين، خارج منطق الاصطفافات السياسية داخل الحكومة الذي يصرّ البعض على الحديث عنه”.
وعندما سُئل عن الجدل في شأن تعبيره الأخير «انه حزين» (على انتهاك سيادة لبنان بدخول صهاريج المازوت الإيراني) أجاب «بالطبع أنا حزين فهل يتوقع أحد أن أكون مسروراً وأنا أشاهد رمي الأرز ابتهاجاً بصهريج محروقات، من دون الغوص في الحديث عن الجانب السياسي والأمني لهذه العملية.
فهل بات تأمين بديهيات الأمور الحياتية هو أقصى طموح اللبنانيين؟ بالطبع أنا حزين».
وفي موازاة ذلك، كانت الأنظار شاخصة على التحقيق العدلي في انفجار مرفأ بيروت من زاويتيْن:
• الأولى تمديد المحقق العدلي القاضي طارق بيطار المهلة لرئيس الحكومة السابق حسان دياب للمثول أمامه (كان موعد الجلسة أمس) كمدعى عليه حتى 4 أكتوبر المقبل واتخاذه قراراً بإبلاغه لصقاً موعد الجلسة، في ما بدا «إنذاراً أخيراً» قبل تطوير مذكرة الإحضار بحق دياب (الموجود في الولايات المتحدة منذ نحو أسبوعين ولنحو أسبوعين آخَرين) لمذكرة توقيف غيابية، وهو الملف «المدجّج» بفتائل سياسية ودستورية وطائفية محورها مَن هي المرجعية الصالحة لملاحقة رؤساء الحكومة والوزراء: هل القضاء العدلي أو المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء الوزراء؟
• والثانية ما الذي سيفعله بيطار في إطار ملاحقته 3 وزراء سابقين هم نواب حاليون (علي حسن خليل وغازي زعيتر ونهاد المشنوق) وهل سيعمد لمعاملتهم بالمثل مع الوزير السابق يوسف فنيانوس ويُصْدِر مذكرة توقيف غيابية بحقهم مستفيداً من مهلة نحو ثلاثة أسابيع لا يتمتعون خلالها بالحصانة النيابية بعد انقضاء الانعقاد الاستثنائي الحُكْمي لمجلس النواب (منذ استقالة أيّ حكومة وحتى تشكيل أخرى ومنْحها الثقة) وفي انتظار الدورة العادية المقبلة، أم سيصار لمحاولة إصدار مرسوم بفتح دورة استثنائية يرجَّح ألا يوقعه رئيس الجمهورية، وسط تقارير تحدثت أيضاً عن اتجاه النواب المعنيين لتقديم «مراجعة بالارتياب المشروع» في حق بيطار ما يشي بإدخال التحقيق في مسار آخَر يحكمه التريث لمعرفة إذا كان سيُفضي لتكرار السيناريو الذي حصل مع القاضي السابق طارق صوان وتالياً تجميد مهمة المحقق العدلي ثم رفع يده عن القضية وتعيين بديل.
ولم تحجب هذه الملفات الاهتمام عن عنوان «الوقود الإيراني» الذي يستمر بدخول لبنان عبر سورية (يُنتظر وصول بأخريين إضافيتين الى مرفأ بانياس)، وسط موقف أميركي جديد عبّرت عنه الناطقة الإقليمية باسم وزارة الخارجية الأميركية جيرالدين غريفيث التي ذكّرت بأن «أميركا تتخذ إجراءات عدة ضد إيران واستيراد النفط غير الشرعي، ونحن مستعدون لمساعدة لبنان للتغلّب على أزمة الطاقة، ولكن على السلطات اللبنانية أن تكون على استعداد لتقوم بدورها. واستيراد النفط من إيران والنشاطات المشابهة يعرّض لبنان للخطر».
ورأت أن «من الواضح أن أمام الشعب اللبناني عدة احتياجات ملحّة، وبعض الجهات كحزب الله، وبدل إيلاء الأولوية لهذه الاحتياجات، يخدم أنظمة خارجية كإيران».