لبنان… ذروة السقوط

ليس مبالغة القول إننا كلبنانيين في ذروة السقوط، حيث لم تعد المعادلة فيما يمكن إصلاحه، بل هل هنالك ما يمكن إنقاذه؟ وحتى محاولات الإنقاذ مع هذه الطبقة الحاكمة شبه مستحيلة، والاستحالة مبنية على واقعين؛ الأول تفاقم الأزمة المعيشية والاقتصادية واقترابها من الانفجار الشامل، والآخر انعدام المسؤولية لدى جميع أعضاء المنظومة الحاكمة وإصرارهم على ممارسة كيديات سياسية، كأن شيئاً لم يتغير منذ حراك 17 أكتوبر (تشرين الأول) وانفجار 4 أغسطس (آب).
في الواقع الأول، هناك ما هو أخطر مما يحذّر منه الباحثون أو الخبراء في المجال الاجتماعي، من مخاطر ثورة الجياع التي تُنتج فوضى عارمة، ولا تقدر أن تكون أداة للتغيير، لكن ما فات الجميع في لبنان أن هناك طبقة جديدة يمكن تسميتها حديثي الفقر، وهؤلاء في معظمهم من نادي الطبقة المتوسطة والأعلى من المتوسطة بقليل، وبلغت الأرقام هناك أكثر من 160 ألف حساب بنكي تتراوح ودائعها ما بين نصف مليون دولار ومليونين ونصف المليون دولار، تعود لأسر عملت لسنوات، إما في الخارج، وإما كانت تدير مصالح متوسطة في الداخل، وقد ادّخرت أموالها في المصارف المحلية أو كانت تمارس أعمالاً تجارية ومهنية، وفّرت لها دخلاً مرتفعاً.
هذه الطبقة خسرت الآن جنى عمرها، وتحولت أسرها من حال اليسر إلى حال الفقر، فتغيرت طبيعتها الاجتماعية والحياتية، وباتت تعيش أزمة تكيف مستحيلة مع واقع لم تصنعه، إنما هناك طبقة سياسية، لم تكتفِ بسرقة المال العام، بل استولت على المال الخاص، وهذا ما سوف يدفعها حتماً إلى المحاسبة والانتقام، بعد خسارتها لجودة الحياة والتعليم والطبابة، وخسارتها لرأس مال يمكّنها من إعادة نشاطها الاقتصادي، إضافةً إلى صعوبة البحث عن أسواق خارجية، لكي تهاجر إليها من جديد، أو تدفع أبناءها إلى هجرة أخرى، خصوصاً بعد ما تركته جائحة «كورونا» من مصاعب اقتصادية، دفعت بالدول ذات الأسواق المفتوحة، إلى ممارسة أنانية وطنية، بهدف الحفاظ على ثرواتها وإعطاء الأولوية لكوادرها المحلية.
مما لا شك فيه أن هذه الطبقة يمكن أن تتحول إلى رأس حربة إذا عاد الزخم إلى الساحات، وسيكون لها تأثير أفقي، سيترك بصماته على باقي الطبقات المسحوقة، وهذا ما يعزز دور نخبها في المرحلة المقبلة، وسيعرقل خطط المنظومة الحاكمة، التي تراهن على فوضى الجياع، التي عادةً ما تكون محصورة في مطالب معيشية، بينما ستتمكن طبقة حديثي الفقر، بتنوعها وغناها المعرفي والاجتماعي ووعيها السياسي، من أن تصبح رافعة لمطالب الجياع، ولمنع الانزلاق إلى الفوضى التي تريدها السلطة.
في المقلب الآخر، أو الواقع الثاني لذروة السقوط اللبناني، تمارس المنظومة الحاكمة عنجهية موصوفة في محاولة تعطيل تحقيقات انفجار مرفأ بيروت، ولجأت مؤخراً، إلى بدعة مجلس النواب، من أجل تحصين أعضائه وإعاقة رفع الحصانة عنهم، كأن هذه الطبقة حتى الآن، لم تتعلم من تجارب التاريخ أن هناك كوارث وأحداثاً غيّرت مجرى التاريخ، من قنبلة هيروشيما التي كانت إيذاناً بدخول سلاح جديد على الصراعات الدولية يؤدي إلى حسمها بسرعة، إلى انفجار مفاعل تشرنوبيل النووي، الذي كشف عن اهتراء المنظومة السوفياتية، وبشّر بقرب سقوطها، حيث لم تنفع القيادة السوفياتية حينها، لا قدراتها الاستخبارية، ولا قوتها العقائدية، ولا عملية تعتيمها على ما جرى لتشرنوبيل، من إخفاء الحادث ومضاعفاته على صورة النظام الشيوعي داخلياً وخارجياً.
حتى الآن، تدير المنظومة أذنها الطرشاء، تفرض التعاون أو التنازل وتتوغل في تعنتها خارجياً وداخلياً، غير آبهة لا بأعراف أو قوانين محلية أو دولية، وتراهن على فوضى منظمة وعنف مدبر، تحتوي من خلالهما الشارع الذي وصل إلى ذروة غليانه وأصبح أشبه بتحالف الضحايا ابتداءً من ضحايا المرفأ والاغتيالات إلى اللبنانيين كافة بوصفهم ضحايا السلطة الأحياء، الذين ضاقت خياراتهم ما بين موت جماعي أو انفجار جماعي.

مصطفى فحص – الشرق الأوسط