عَقْلَنة الصراع بين “حزب الله” وإسرائيل

المشاعر على الأرض تغلي. في الضاحية الجنوبيّة تغلي، وفي مَعْلَم مليتا وقفات تضامنيّة، ومن يرى متسلّقيّ الجدار الفاصل بين لبنان وفلسطين، يخالُ أنّ انفجار الوضع على الحدود بات مسألة دقائق. لكن غريبٌ أمر هذا الصراع بين الحزب وإسرائيل على الحدود، فبِقَدرِ ما فيه مشاعر صادقة تغلي، بقدر ما لا تفور الركوة بسهولة.

البعض ينسب هدوء الوضع على الحدود إلى إتّفاق سرّي بين الحزب وإسرائيل، ويغمز من قناة التنسيق الضِّمني. الأمرُ ليس كذلك، لكنّي أرى في هذا الهدوء عَقْلنةً للصراع الحقيقيّ بين حزب الله وإسرائيل، الأمر الذي أبقى الجبهة الجنوبيّة هادئة منذ آب 2006. هذه التهدئة أعطَتْ كُلّاً من الطرفين، إسرائيل وحزب الله ما أراد أخذه منها.

هذه العقلنة بدأت ميدانيّاً في تموز الـ 2020 حين قَتلَتْ غارة إسرائيليّة على محيط دمشق المجاهد علي جواد من بلدة عيتيت. يومها نعاه الحزب في بيانٍ مقتضب، وبعد أيّام أعلن الحزب على لسان أمينه العام، أنّه سيردّ على هذا العدوان، لكنّ ذلك لم يحصل.

في نهاية الأسبوع الماضي، وصَلَت إلى القرى الحدوديّة مجموعاتِ يساريّين لبنانيّين، وفلسطينيّين، ومناصرين لحزب الله. ماذا حصل؟ وقف عناصر حزب الله جنباً إلى جنب مع الجيش اللبناني مانعين وصول هؤلاء إلى سهل مرجعيون. كان الخبر غريباً يومها. في اليوم التالي، قُتِل الشابُّ في حزب الله محمد طحّان بنيران إسرائيليّة، لكنّ الحزب لم يردّ.

ليس ذلك فحسب. فأكثر من مرّة، أطلق مسلّحون، يُعتقد أنّهم فلسطينيّون غير منضوين تحت لواء منظّمة التحرير، صواريخ باتّجاه إسرائيل. ماذا حصل؟ في كلِّ مرّة، وفي وقتٍ قصيرٍ جدّاً، كان الجيش يعثر على منصّات إطلاق الصواريخ، وعاونَه بذلك حزب الله الذي تصرّفَ تصرُّفَ الحريصِ على التهدئة.

هذه العَقْلَنة الميدانيّة للصراع، تواكبها عقلنة سياسيّة تتمثّل في المفاوضات مع الإسرائيليّين في الناقورة. أنتَ من تُفاوض؟ تفاوض طرفاً تعترف بوجوده ضمناً. وعندما تفاوضه على موضوع الأرض، فأنتَ تعترف بحقّه بالوجود والانتفاع بالأرض. أمّا الخلاف فيبقى مقتصراً على الحجم والمساحات. ففي تشرين الأوّل الماضي أعلن الرئيس نبيه برّي بمباركة حزب الله، بدء المفاوضات مع “إسرائيل” كما أسماها يومها حول ترسيم الحدود البرّية والبحريّة. طبعاً الرئيس برّي محنّكٌ جدّاً فلم ينسَ أن يقول يومها: “إنّ إتفاق الإطار هو اتفاق لرسم الحدود لا أكثر ولا أقلّ”.

يحصل كلُّ ذلك لأنّ الحزب يُعقلِن الصراع. صحيحٌ أنّ العداء بين الحزب وإسرائيل كبيرٌ، لكنّ الحزب يحدّد نوعيّة التعبير عن هذا العداء والتوقيت والشكل، فهو كان سبق له أن وافق على القرار 1701 الذي الصادر عن مجلس الأمن، وهو لا يستطيع أن يتنكّر لهذه الموافقة من دون أن يدركَ أنّ ثمن ذلك سيكون باهظاً عليه سياسيّاً، وعلى أهل الجنوب اقتصاديّاً ومادّياً. الحزب يرضى بخطاباتٍ واحتفالات ومسيرات ووقفات تضامنيّة، لكن كلَّ ما هو أبعد من ذلك، فليس على لائحة أولويّاته الآن.

أنا شخصيّاً أعتقد أنّ آخر حربٍ بين حزب الله وإسرائيل هي حرب تمّوز، وأنّ أيّ حربٍ أُخرى إذا وَقَعت، فلن تكون أقلّ من تلك الحرب الساحقة الماحقة التي ستشمل معظم الدول العربيّة وإيران وإسرائيل، ولا أعتقد أن موعد حصولها قد جاء.

سمير قسطنطين-النهار