تشريع اقتصاد “التهريب المقاوِم”

هل دخل لبنان مرحلة تشريع التهريب مع صدور الفتوى السياسية باعتباره “جزءاً لا يتجزّأ من عمل المقاومة” على لسان الشيخ صادق النابلسي، شقيق المسؤول الإعلامي في حزب الله والأستاذ في الجامعة اللبنانية؟ وبعد تقاطع المعلومات عن اتفاق التحالف الحاكم على منع الجيش اللبناني من التصدّي للاستيلاء الجاري على طعام اللبنانيين ومحروقاتهم وتقديمها للنظام السوري وتكليف الجمارك شكلياً بهذه المهمة؟

في الأشهر الأخيرة، تطوّرت سوق التهريب لتصبح محور الحركة الاقتصادية، بعدما أطبق “حزب الله” سيطرته على معظم الحركة التجارية في لبنان، من خلال سيطرته على المنافذ واستخدامه المعابر الشرعية في مشروعه الاقتصادي المبنيّ على التهريب والمقايضة وتوفير البضائع لمناطقه، وإغراق بقية المناطق بالاحتكارات وخنق أهلها بالغلاء الفاحش، وتبادل المنافع مع النظام السوري.

لكنّ عائقاً يحول دون بلوغ حركة التهريب مداها الميداني والسياسي، وهو قيام الجيش بالتصدي لعمليات التهريب ومصادرة الموادّ المهرّبة في البقاع وفي عكار، في طريقها إلى سوريا. وقد تكثّفت جهود الجيش، بحيث طالت قوافل ضخمة وأعاقت حركة القوافل التي تعبر الحدود، باعتبار ذلك شرطاً أساسياً من شروط المجتمع الدولي لإنقاذ لبنان، ولأنّ الخطاب الرسمي كان لا يزال يستنكر التهريب ويتنصّل منه في الشكل على الأقلّ.

هنا دخلنا المرحلة الجديدة من تطويع مؤسسات الدولة لصالح مشروع اقتصاد التهريب. وكان لا بُدّ من تظهير فلسفة هذا المشروع، وهو ما عبّر عنه النابلسي عندما اعتبر أنّ “التهريب جزء لا يتجزّأ من عملية المقاومة والدفاع عن مصالح اللبنانيين، وما يحصل اليوم تحت الضغط الأميركي والعقوبات الحالية أنّ الشعبين اللبناني والسوري يُضطران إلى تجاوز الحدود وكسر بعض القوانين من أجل توفير احتياجاتهم المعيشية”، وذلك في حوار مع تلفزيون “فرانس 24”.
ما قاله النابلسي ليس سوى تقرير واقع، لم ينكره “حزب الله” ولم يعترض عليه، بل أقرّه وأكّده بسكوته على ما جاء في الفتوى، التي شكّلت رسالة معلنة بأنّ هذه هي نظرة الحزب الحاكم إلى مسألة التهريب، وهذا ما ينبغي أن يفهمه الجميع، داخل الأجهزة الرسمية وخارجها على حدٍّ سواء، والتصرّف على أساسه.

 

أين رئيس الجمهورية؟

كانت مسألة التهريب، وموقف أجهزة الدولة منها، مدار نقاش مستفيض بين قيادة “حزب الله” ورئاسة الجمهورية خاصّة، لمعالجة موقف الجيش من هذه العمليات، ووقف تعقّبه واعتراضه القوافل المغادرة، باعتبار أنّ ذلك يصبّ في إطار الحرب الخارجية على “المقاومة”. ويبدو أنّ المخرج استقرّ على تحييد الجيش عن ملاحقة عمليات التهريب وحصرها بجهاز الجمارك، الذي يفتقر إلى القدرات البشرية لتغطية المساحات الجغرافية وفرض تطبيق القانون، خصوصاً أنّ الجمارك تعاني تصدّعاتٍ خطرة ناجمة عن التغوّل السياسي في دوائرها من قبل التيار الوطني الحر وحركة أمل والحزب طبعاً.

هذا التوجّه هو المخرج، الذي يلائم متطلّبات تحالف السلطة، ويجعل التهريب مع اشتداد الأزمات أمراً يتمتّع بشرعية الأمر الواقع، لأنّ قوافل التهريب تعمل على “فكّ الحصار عن الشعب الذي لا يمكن تركه فريسة الجوع”، وهذا سيتطوّر إلى عمليات تبادل للموادّ مع سوريا وفق حاجة كلّ طرف، على أن تشمل العراق وسوريا وإيران.

يراهن “حزب الله” والتيار الوطني الحرّ على حالة الإنهاك، التي يعانيها الجيش بسبب حصار السلطة له على المستوى الداخلي، وقطع المساعدات الخارجية عنه بعد إعلان هذه السلطة العداء للمجتمعين العربي والدولي، وعلى الإحراج الذي يمكن أن يوضع العماد جوزيف عون تحت وطأته، باعتبار أنّ التهريب هو فعل وطني، وأنّ هذا هو القرار غير المعلن للسلطة السياسية، وأنّ المطلوب هو التخفيف التدريجي لملاحقة الجيش لقوافل التهريب، مع إبعاد هذه القضية عن اهتمام الرأي العام، وإلهائه بأشكالٍ مختلفة من الفوضى الأمنية والاجتماعية.

لا يمكن توقّع خضوع الجيش لهذه الضغوط الداخلية، لأنّ التوازنات التي يقيمها العماد جوزيف عون بميزان الذهب، تفرض عليه الحفاظ على دور الجيش الذي هو المؤسسة الباقية القادرة على حفظ ما تبقّى من شرعية الدولة، وهذا يجعلنا أمام واقع شديد الخطورة والتعقيد.
إعلان رسمي؟

يمكن القول إنّ التحالف الحاكم حسم أمره في كيفية إدارة الشأن الاقتصادي خلال الانهيار وبعده، مع استحضار الرئيس ميشال عون ما سبق أن طرحه في “مؤتمر القمة العربية للشؤون الاقتصادية”، الذي عقد في لبنان، عندما أطلق مبادرةً هدفها إنشاء سوق اقتصادية مشتركة تضمّ لبنان، الأردن، العراق، وسوريا.

يأتي تطبيق هذه المبادرة لتجاوز التشظّي في تركيبة الدولة، وتخطّي التدهور في علاقاتها الخارجية، وافتقارها إلى الموارد المالية والعملة الصعبة لإقامة تجارة مستقيمة ومشروعة، ووضع سوريا ولبنان في مركب واحد، هو مركب الممانعة، وإطلاق التعامل مع النظام السوري على الرغم من خضوعه للعقوبات الدولية.

الواقع أنّ دعوة حزب الله ومبادرة عون تُطبّقان فعلياً من خلال إنشاء شبكات واسعة للتهريب والتهرّب من القانون والعقوبات على حدٍّ سواء، فتحوَّل التهريب إلى العمود الفقري لاقتصاد محور الممانعة الذي بات يعتمد مبدأَ المقايضة وتبادل المنافع خارج آليات السوق الشرعية.

كان هذا يحدث قبل بدء انهيار العملة وانكشاف الليرة اللبنانية أمام الدولار، ثمّ فتح “حزب الله” عينيه على السلع الأساسية المدعومة، فانقضّ عليها وحوّلها إلى تجارة ذات أرباحٍ فاحشة، مكّنته من افتتاح سلسلة من التعاونيات الضخمة المعتمدة على البضائع المدعومة، بحيث امتصّت تعاونيات “النور” جزءاً من هذه البضائع قد يصل إلى نسب مئوية مرتفعة. ونظَّم حزب الله حركة التجّار المتعاملين معه، الذين لا يدفعون أصلاً رسوماً جمركيّة، ويغزون أسواق باقي المناطق، ويصدّرون إلى الأسواق الخارجية.
المثل الأبسط أنّ لبنان كان يستورد بـ30 مليون دولار شهرياً مواد غذائية، بينما الآن بلغت فاتورة استيراد المواد نفسها مائة مليون دولار شهرياً كما صرّح الخبير الاقتصادي جاسم عجاقة.

سيعترض “حزب الله” بشراسة على رفع الدعم لأنّه يشكل مورداً حيويّاً له، وسيضخّم الدعاية السياسية لإقناع اللبنانيين أن لا خيار أمامهم سوى العيش تحت ظلال التهريب والانضمام إلى نادي دول الممانعة، حيث تتحلّل الدولة ويعلو شأن الميليشيا، ولا يسعنا حينئذ سوى القول “على لبنان السلام”.

فهل يجلس الجيش جانباً لتسقط آخر معاقل القانون والدولة؟

 

أحمد الأيوبي – أساس ميديا