مذكرات السياسيين بين حدي الحريات والأسرار القومية

يعشق رجال السياسة إصدار المؤلفات ونشرها في مختلف المكتبات، إذ يعتبرونها سلاحاً فتاكاً في التسويق السياسي، من خلال إبراز اللحظات المريرة والمراحل الصعبة التي عاشوها في حياتهم ولم يتكلموا عنها سابقاً، كونها تثير تعاطف الجمهور وترفع معدلات قبولهم لدى الرأي العام من خلال التبريرات التي يسوقونها حول قرارات اتُخذت ولم تكن على قدر تطلعات المواطنين. وينشر معظم السياسيين الراغبين في الترشّح للانتخابات، مؤلفات تتضمن مشروعهم السياسي والاقتصادي والبيئي والاجتماعي تسمح لهم بجسّ نبض مؤيديهم. أمّا من تقاعد من بين أهل السياسة، فيلجأ إلى إصدار كتاب يروي فيه مذكراته أو بعض الأسرار والخفايا عن سياسيين آخرين، فتكون عودته إلى دائرة الضوء مرهونة بالنجاح الذي سيحققه الكتاب.
إلا أن بعض هذه المؤلفات ربما تتضمن معلومات حساسة تؤدي إلى جدل سياسي واسع، يصل إلى حدود الفتنة وتهديد الأمن القومي للدولة، خصوصاً عندما تورد محاضر عن اجتماعات ووثائق سرية. وقد يستخدمها السياسي في مؤلفاته بهدف تخوين منافسيه وإسقاطهم، وهنا يبرز دور الأجهزة الرقابية الرسمية على محتوى هذه المؤلفات، وحدود وضوابط حرية الرأي والتعبير. إذاً مَن يراقب مؤلفات هؤلاء؟ وكيف يمكن ضمان الأمن القومي الذي من الممكن أن يتضرر نتيجة محتوى هذه الكتب؟

أدب السجون

وفي مقالة نشرها عميد كلية الإعلام والاتصال بالجامعة البريطانية في مصر، الدكتور محمد شومان، قال إن “أحدث المذكرات السياسية هو ما كتبه عمرو موسى وأثار ضجة كبيرة في مصر وخارجها”، موضحاً أن “غالبية المذكرات والسير الشخصية في العالم العربي كانت لسياسيين ورجال الدولة، أي أن الطابع السياسي هو الغالب، لكن المفارقة هي أن معظمها يندرج في إطار ما يُعرف بـ”أدب السجون”، والتي كتبها سياسيون ظلوا طوال حياتهم في المعارضة، وكثير منهم دخل إلى المعتقلات والسجون العربية، حيث أحصى أحد الباحثين 113 كتاباً لسياسيين وصحافيين من كل الاتجاهات سجّلوا معاناتهم وتجاربهم في السجون العربية”.

وأشار شومان إلى أن الكتابات عن السجون محمّلة بفائض من المعاني والرموز الإنسانية “ربما لا تتوافر في كتابات اليوميات أو المذكرات الشخصية لرجال الدولة من رؤساء أو وزراء وغيرهم، لأن لدى هؤلاء كمّاً هائلاً من المعلومات والعلاقات مع البشر، لكنهم ليسوا أحراراً في الكتابة أو البوح، فثمة إشكاليات وقيود غير مرئية لا تعترف بها غالبية السياسيين العرب الذين كتبوا مذكرات أو سير ذاتية”.

الاستشهاد بالموتى

واعتبر شومان أنه على الرغم من القيود التي من الممكن أن تؤثر في صدقية المذكرات والسير الشخصية، فإنها كتابات مهمة لا غنى عنها وستستمر، “لأنها تلبي حاجات لدى مَن يكتبها، ومَن يهتم بقراءتها أو تحويلها إلى أفلام أو مسلسلات درامية، إذ يدوّن السياسيون مذكراتهم كنوع من مقاومة الفناء وتسجيل ما لديهم للتاريخ، أو إتاحته للمؤرخين، وفي بعض الحالات يكتبون لتصفية حسابات قديمة مع خصومهم، أو الدفاع عن مواقفهم وتجميل صورتهم وتعظيم دورهم في صناعة الأحداث. كما يسجّل بعض السياسيين كنوع من التأمل والتنفيس عن الذات وكمحاولة لتعليم الآخرين ونقل خبرات الحياة إليهم”.
ورأى شومان أن المذكرات أو السير الشخصية هي منتج متحيز بحكم طبيعته وظروف إنتاجه ونشره، وأنه من الصعب التأكد من صحتها أو الوثوق بها، لا سيما أن عدداً كبيراً من السياسيين الذين كتبوا مذكراتهم يستشهدون بأشخاص ماتوا منذ سنوات طويلة، أو يحيلون القارئ على وثائق غير منشورة، ولن تُنشر في الغالب لأن عالمنا العربي لا توجد فيه قوانين وقواعد لنشر الوثائق الرسمية”.

الهروب في روسيا

ويشير المؤرخون إلى أن الإمبراطور الروماني يوليوس قيصر كان أول مَن كتب مذكرات شخصية، وذلك عام 49 قبل الميلاد، وتطرّق بشكل أساسي إلى الحملات العسكرية التي كان يقودها لتوسيع الإمبراطورية الرومانية. إلا أن مؤرخين آخرين ينسبون ظهور المذكرات الشخصية بمعناها المعروف حالياً، إلى عصر التنوير قبيل الثورة الفرنسية عام 1789. وفي القرن العشرين، اشتهرت معظم المذكرات خلال الحربين العالميتين، لا سيما مرحلة النازية في ألمانيا وحكم بنيتو موسوليني في إيطاليا. وأثار أخيراً كتاب مستشار الأمن القومي الأميركي السابق جون بولتون، الكثير من الضجة، إذ نوقشت مقتطفات منه في معظم دول العالم.

في موازاة ذلك، يُلاحَظ غياب المذكرات عن معظم كبار المسؤولين والسياسيين المتقاعدين في روسيا. وأوضح المحلل السياسي مكسيم زاروف في مقابلة مع وكالة أنباء “رياليست”، أنه في روسيا، وعلى عكس الولايات المتحدة، لا يوجد لدى المسؤولين الروس تقليد كتابة المذكرات مباشرة بعد الاستقالة، و”هذا يرجع إلى أنه حتى السياسي المتقاعد ينتظر دائماً منصباً جديداً، بالتالي ليس من مصلحته أن يفسد علاقاته مع الرؤساء من خلال المذكرات”. وأضاف زاروف أن “المسؤولين الروس الذين يُعتبرون مهمشين هم المسؤولون المفصولون الذين لم يحصلوا على مزيد من المناصب، لذلك فإن السابقة الوحيدة التي تبدو كفضيحة هي مذكرات ألكسندر كورزاكوف التي تمت كتابتها بعد سنوات من استقالته، مما غيّر تماماً الموقف تجاهه”.

بتر وطمس

في المقابل، يرى بعض النقاد أن معظم مؤلفات السياسيين الكبار في العالم تعرّضت للبتر وطُمست حقائق كثيرة تحت “سيف” أسرار الدولة، إذ تلجأ السلطات إلى اعتبارات الأمن القومي لمنع نشر شهادات تراها سلبية التأثير، مثلما حصل مع مذكرات جون بولتون، لمحاولة ثنيه عن نشر كتابه. كذلك في ألمانيا، حيث لم يُسمح للرئيس الأسبق لجهاز الاستخبارات الخارجية غيرهارد شيندلر، بنشر مذكراته لأنها تحتوي على “معلومات سرية ما زالت ممنوعة من النشر”.
أما في العالم العربي، فإن مصطلح الأمن القومي مطاط وغير محدد في معظم الدساتير العربية، فلا يوجد تعريف لقواعد الأمن القومي وحدوده يمكن الاحتكام إليها في رفض نشر مذكرات مسؤول ما والسماح بمذكرات آخر. ومثّلت تهمة نشر أسرار الدولة من دون إذن مسبق، حجة لدى حكومات عدة لمعاقبة مسؤولين سابقين قرروا كتابة شهاداتهم عن أحداث سياسية عايشوها، وملاحقتهم.

الحرية والحدود

ومن هذا المنطلق بات مصطلح الأمن القومي يختزن أبعاداً وجوانب كثيرة في حياة الفرد والمجتمع، إذ تذرّعت بعض الدول بتحقيق الأمن ومكافحة الإرهاب للمساس ببعض الحريات، على غرار حرية المعتقد والنشر وغيرها من الحقوق. وعلى ضوء هذه الرؤية، هناك علاقة عميقة وجوهرية تربط بين مفهومَي الأمن والحرية بحيث أن المجتمع الذي تُحترَم فيه الحقوق والحريات هو المجتمع الذي يمتلك عوامل أمنه واستقراره. ويرى بعض خبراء القانون أن التزام احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية يقع على عاتق الدولة كقاعدة عامة، “إلا أن هذا الالتزام ليس مطلقاً بل يمكن تقييده، أي يجوز للدولة التحلل جزئياً من بعض التزاماتها في حالة الحرب أو الظروف الاستثنائية الأخرى”. ويجب أن يخضع هذا الالتزام لضوابط وشروط محددة بحيث لا يُترك للسلطة تحديده بشكل تقديري ومنفرد، فيتجاوز الحقوق والحريات الأساسية للأفراد.

 

طوني بولس-اندبندت عربية