مجدّداً… أيّ لبنان نريد؟

لا يكفي ان تُجدّدَ الاحتجاجاتُ على كسر الدولار حاجزَ العشرة آلاف الأملَ بثورة 17 تشرين. فالشباب اللبناني الذي ثار على المنظومة الفاسدة لم يغيّر قناعاته منذ ذلك الحين بوجوب التخلص منها وإقامة دولة المواطنية والقانون، ولم يتراجع عن إصراره على التغيير رغم المعوقات كلّها، ودفَعَ مع كلّ موجة نزول الى الشارع أرواحاً وإصابات بالعيون ثمناً للمواجهة الشرسة والقمع السلطوي والميليشيوي الموصوف.

يُطرح اليوم مجدداً وبإلحاحٍ شديد السؤال عن إمكان كسر المعادلة القائمة استناداً الى الوسائل المشروعة نفسها التي اعتمدتها الثورة من تظاهراتٍ وقطع طرقات وشعارات عادت تتكرر في الأسبوع الجاري، مع انها لم تثمر قبل 15 شهراً إلا اخراج سعد الحريري من الباب ليعود مكلَّفاً من الشباك، ومع ان بين الاستقالة والتكليف حدث ضخم تمثل بتفجير 4 آب وجريمة اغتيال لقمان سليم.

لم يتوقع أحد انتصاراً سريعاً أو حاسماً للثورة على سلطة الفساد، فالمنظومة راسخة وقادرة على الانقضاض عبر “ثورة مضادة” مارست وحشيتها، خشية أن يطيح التغيير ركائز المافيا وتُسترَد الدولة من الناهبين والمهيمنين. لكن المسألة لا تتلخص بالوقت والأساليب إذ تأكد بالملموس ان فصل “المطلبي” عن “السيادي” درءاً للانقسام، محاولة مسؤولة لكنها قاصرة عن ادراك جوهر الصراع الأساسي. ورغم أهمية تشكيل حكومة اختصاصيين مستقلين أو إطاحة “الحاكم” المتواطئ او استقدام مساعدات لتحريك الاقتصاد والاستثمارات، فإن العقبة الفعلية تذكّرنا بسؤالٍ فشلنا في الاجابة الشافية عليه منذ نصف قرن وهو: أي لبنان نريد؟

لم تصطدم مطالب الثورة مثلاً بطرح اقتصادي مخالف او بوجهة نظر سياسية ترى استقالة رئيس الجمهورية خطوةً في غير محلها، او الانتخابات النيابية غير مجدية، بل بخيارٍ استراتيجي يقوده “حزب الله” ويرى دوراً رئيساً للبنان في محور الممانعة مرتبطاً بالصراع الاقليمي، ويفترض انسجام نمط حياة ابنائه مع متطلبات مواجهة تتجاوز قرار الدولة اللبنانية ولها مبرّراتها الايديولوجية والسياسية والعسكرية.

وحده البطريرك الراعي “بقّ البحصة” واضعاً يده على الجرح معلناً بكلامٍ صريحٍ وفصيح “أي لبنان نريد” حين طالب بالحياد، ثم أرفق المطلب بخريطة طريق أساسها مؤتمرٌ دولي.

ستلفّ مجموعات الثورة وتدور، والقوى السياسية كذلك. بعضها يتوهّم الحلم الجميل بوحدةٍ وطنية عابرة للطوائف تستطيع إخراج لبنان من المأزق وتأسيس دولة المواطنية والقانون، وبعضها يُحجم عن الاقدام والتماهي مع مطالب الراعي مختبئاً خلف “إعلان بعبدا”، او يتذاكى بتأييد “التحييد”، أو يفضل معاودة الانتظار المرير على ضفّة النهر.

هو مسارٌ طويل قبل ان تصل الثورة وأكثرية اللبنانيين الى القناعات التي حوَّلها البطريرك الراعي مشروعاً متكاملاً لإعادة احياء “لبنان الكبير”. ونحنُ اليوم في منتصف الطريق.

بشارة شربل-نداء الوطن