لماذا الحياد هو الحل؟


من الصعب نجاح مجموعة طوائف متنوعة، في بقعة جغرافية صغيرة، محاطة بدول متصارعة، في بناء دولة مسالمة ومزدهرة. فالتاريخ غنيّ بأمثلة عن دول مركّبة غرقت طوال قرون في الأزمات والحروب والانقسامات، بسبب عوامل داخلية تتمثّل بالتناقضات في صيغة تقاسم السلطة بين مكونات البلد المعنية، وخارجية تتعلق بمصالح الدول المحيطة وحساباتها.
هذا ما حلّ بلبنان، حيث ذهب البعض مجدداً للتطلع إلى الخارج بحثاً عن دعم أو رافعة، أو حتى هوية، وصولاً إلى حدّ زجّ البلد بالقوة في محاور سياسية وعسكرية إقليمية ودولية على حساب السيادة والاقتصاد والاستقرار والأمن وحسن علاقاته الخارجية، ما بات يهدد وحدة الوطن ووجود الدولة واستمرارها، وما يفرض إيجاد حلّ مستدام للبنان. فالمجريات كلها تشير إلى أننا بتنا أمام لحظة التاريخ الحاسمة، فلبنان اليوم يمرّ في أزمة مصيرية تضعه أمام الخيار بين أن يبقى ساحة للصراعات الدولية والإقليمية ويسقط كدولة ونظام ويتقسّم ويفقد وحدته ويصنّف في خانة الدول الفاشلة، أو نعمل جدياً، وخلافاً لما يقوم به حكّامه، لإخراجه من دائرة الخطر، ومن هنا نفهم مبادرة البطريرك الراعي بطرحه إعلان حياد لبنان والدعوة إلى مؤتمر دولي لمساعدة شعبه على تنفيذ وثيقة الوفاق الوطني.
فالحياد في صميم الفكرة اللبنانية أصلاً، وهو ليس بطرح جديد، ونجاح التركيبة اللبنانية ارتبط بالحياد، فحين ابتعد لبنان عن التكتلات ازدهر، وحين تخلى عن الحياد انكسر، ما يؤكد أن لا شيء يمكن أن يؤمّن للبنان المناعة بوجه العواصف السياسية سوى الحياد، وهو ما أدركه الآباء المؤسسون للجمهورية اللبنانية، عندما توافقوا على الميثاق الوطني الذي يؤكد الحياد بين الشرق والغرب، وأكّدوه في بيان حكومة الاستقلال. فالحياد ليس فكرة مستجدة، والمطالبة به ليست ردة فعل على أحداث معيّنة، إلاّ أنه من المؤسف أنّ القوى السياسية اللبنانية لم تلتزم خلال التاريخ المعاصر للبنان، أي في نصف القرن الذي مضى، بل راحت بالاتجاه المعاكس لكل ما يمثله الحياد، ودخل لبنان في دوامة صراعات لامتناهية، أفقدته وحدته وسيادته ومكانته بين الأمم.
لقد عمدت المجموعات اللبنانية، كل بدورها، إلى الإستقواء بالخارج، وصولاً إلى حدّ تبنّي بعضها عقائد مستوردة والسير بمشاريع أوسع من لبنان والقتال من أجل قضايا ليس للبنان شأن فيها، كما استغلته بعض الدول، التي لها مصالح في لبنان، فعملت على استغلال التناقضات اللبنانية، ما طرح مسألة الكيان والهوية، وذلك خلافاً لوثيقة الوفاق الوطني، التي كرّست نهائية الكيان اللبناني، كما أمّنت المشاركة في السلطة، ما دفع لبنان بقوة السلاح إلى محاور الصراعات الإقليمية، بما سمح للمقاومة الإسلامية في لبنان، المعروفة بـ”حزب الله”، بالتحكّم بكل مفاصل الدولة اللبنانية بدعم من الجمهورية الإسلامية في إيران، التي أمدّتها بالسلاح والمال وضمنت خضوعها لقائدها الخامنئي، باعترافها، وفرضت تمثيلها في الحكومة وفي المجلس النيابي وفي الإدارات، ومصادرة قرار الحرب والسلم، والهيمنة على السياسة الخارجية، تحارب في دول عربية عدة، وتهدد علاقات لبنان بمحيطه، ولا تقيم لحدود لبنان أي اعتبار، ما وضع لبنان في صلب المحور الإيراني، وحوّل المدنيين اللبنانيين إلى دروع بشرية لحماية منصات الصواريخ الإيرانية، عدا عن تحوّل شوارعنا إلى معرض لصور القادة الإيرانيين وتماثيلهم، ما جعل لبنان ورقة أمنية وسياسية واقتصادية بيد محور إقليمي ودولي ضد آخر، أي محور إيران ضد العرب والغرب، فأصبح لبنان مشلولاً في اقتصاده، مفلساً في مصارفه، مرهوناً في سياسته الخارجية، معزولاً عن محيطه العربي الطبيعي، فاقداً للسيادة وساحة للترهيب والاغتيالات، ما أدّى الى سقوط حياده، وعزله دولياً وعربياً، ودفع الدول الصديقة والشقيقة الراغبة في مساعدة لبنان الى الإنكفاء لأنها ترى في لبنان حليفاً لأعدائها.
حيال هذا الواقع المفروض، بتواطؤ حكامنا مع “حزب الله” وسكوتهم عن ممارساته، وتجنباً لانفجار الوضع وتفتّت الكيان اللبناني، لم يعد أمام لبنان إلا اعتماد الحل الأكثر ملاءمة للداخل والخارج، وهو الحياد.
فحياد لبنان يعزّز وحدته الداخلية، وينزع فتيل الألغام الإقليمية والدولية، ويقطع الترابط اللصيق بين المكوّنات اللبنانية والمحاور الخارجية، ويضع حداً لاستقواء أي طرف داخلي بالخارج، والحياد يحيي الشراكة الوطنية، ويسهم في صب الاهتمام على الشؤون الداخلية، ويعيد الثقة بين مكوّنات الوطن لأنه يبدد المخاوف المتبادلة من الاستقواء والاستقواء المقابل، ويعيد الاستقرار ويجذب الاستثمار ويحصّن العملة، ويمنع الجنوح الديبلوماسي ويفرض التعامل الايجابي في علاقات لبنان الدولية. فمع الحياد تعود السياسة الخارجية اللبنانية، إلى الاعتدال والانفتاح، ويستعيد لبنان صداقاته ويُسمح له بان يؤمّن مستلزماته الاقتصادية، على الدوام، من كل الاطراف، وفي كل الظروف، فلا حصار يطاوله ولا عزلة تخنقه.

يبقى السؤال حول نوع الحياد الواجب اعتماده وماهية الحقوق والواجبات المتأتية من إقراره والآلية المتبعة لبلوغه، لأن للحياد أشكالاً متعددة، فهو ليس بنظام معلّب يمكن تعميمه، بل هو اتفاق يجري تكييف احكامه مع حالة البلدان ومتطلباتها ومع واقع لبنان وموقعه الجغرافي، وتركيبته، وتناقضاته، وتنوعه، وامتداداته الثقافية والدينية، وروابطه التجارية والإنسانية، وتاريخه، وقدراته البشرية والعلمية، ورسالته، وقدرته على تقريب وجهات النظر، وديبلوماسيته وعلاقاته، وأخيراً موارده.
فلبنان لا يمكن أن يعيش في عزلة، ولا يجوز أن يغرّد خارج سرب محيطه العربي، ولا يمكن أن يقفز فوق مأساة الشعب الفلسطيني، بل يجب أن يبقى عضواً ناشطاً في جامعة الدول العربية ومنظمة الأمم المتحدة.
في ضوء ما تقدم، يجب العمل على نموذج الحياد الايجابي، الدائم غير المرتبط بالأزمة الراهنة، والعسكري الذي يتيح للبنان البقاء دولة حرّة سيدة مستقلة، فبدل أن يكون ساحة لتصفية الحسابات وتفجير الاحتقانات، يصبح لبنان مركزا للتواصل والتقارب بين أطراف النزاع.
إن النظام القانوني الذي يرعى الحياد، وبصورة خاصة الحياد الايجابي، الدائم والعسكري، يرتّب على الدولة التي تعتمده حقوقاً وواجبات. ففي السياسة الخارجية يبقى لبنان عضواً ملتزماً، فاعلاً وناشطاً في الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية، وإذا اتفقت الدول العربية بالإجماع على مسألة ما يكون لبنان معها، وإذا اختلفت، يكون لبنان على الحياد، ويكون خارج الأحلاف والمحاور السياسية، يحترم سيادة الدول وسلامة أراضيها، ويمتنع عن التدخل في شؤونها، وينشط في سبيل الحل السلمي للنزاعات، يصادق من يصادقه ويعادي من يعاديه.
أما في الاقتصاد، فلبنان الحيادي يكون منصّة تلاقٍ اقتصادية منفتحة على كل الإقتصادات، محتفظاً بحقه في التعامل التجاري مع كل الدول، حتى المتصارعة من بينها، شرط عدم انتهاك الحياد، وفي أن يكون مشاركاً في منظمات إقتصادية إقليمية لا أهداف سياسية لها.
وفي الدفاع، فمن حق لبنان الحيادي أن يكون له جيش دفاعي قادر وقوي، تكون مهماته حماية الحدود والدفاع في حال وقع اعتداء على سيادة لبنان وسلامة أراضيه، كما له الحق بمنع استخدام الأراضي اللبنانية كمقر، أو كممر، لجيوش أجنبية ومجموعات عسكرية موالية للخارج، أو منطلقاً لحركات جهادية أو مقرّاً لمنظمات مسلّحة، ويمتنع لبنان عن الدخول بأحلاف أو اتفاقات عسكرية .
فلبنان الحيادي هو لبنان القادر على حماية حياده بنفسه. جيشه الدفاعي لا يتورط في مغامرات خارجية، يمنع أي جماعة كانت من ان تستخدم الاراضي اللبنانية لإطلاق عمليات خارج الحدود، ما يستلزم حل ميليشيا “حزب الله” وتسليم سلاحه إلى الجيش اللبناني ومعالجة الوجود المسلح الفلسطيني وما يتطلّب إعادة تفعيل الخدمة العسكرية للمدنيين، بحيث يصبح الشعب اللبناني كله جيش احتياط للدفاع عن لبنان وعن حياده كما هي الحال في سويسرا.
من الطبيعي أن تخرج اصوات مشككة بقدرة الحياد وفعاليته على حماية لبنان من الاعتداءات خصوصا من جانب حدوده الجنوبية، إلاّ أنّ الجواب على هذه المخاوف يكمن في أن الحياد المطروح هو حياد ذو طبيعة عسكرية، أي أن للبنان الحق في الدفاع عن نفسه بكل الوسائل العسكرية إزاء أي تعد على سيادته او حياده، وبالتالي فإن حالة العداء مع اسرائيل تبقى خاضعة لاتفاقية الهدنة وللقرار 1701 الصادر عن مجلس الأمن، وتكون القوى العسكرية الشرعية وحدها المكلّفة الدفاع عن لبنان.
بما أن لبنان عاجز عن إعلان حياده بمفرده عبر تعديل دستوري بسبب رفض “حزب الله”، وبعدما أصبح مرتهناً لمحور معسكر وخاضع لسطوة ميليشيا “حزب الله” وإرادتها المنفردة، لذلك، صار لزاما على اللبنانيين أن يسلكوا الطريق المعاكس، فبدل أن ننتظر أن تنطلق المبادرة من لبنان والقبول من دول العالم، يجب ان يطرح موضوع حياد لبنان من الخارج، وأن يتم إلزام اللاعبين اللبنانيين به.
صحيح أن شرعة الأمم المتحدة تمنع على الدول الأعضاء التعرّض لسيادة أي دولة في الأحوال الطبيعية، إلاّ أنه بعدما أصبح لبنان مصدراً للمقاتلين ومركزاً لتدريب المرتزقة ومخزناً لأخطر أنواع المواد وملجأً لملايين النازحين، عدا عن تحلّل الدولة اللبنانية وفشلها على كل الصعد، ما يهدّد بثورة إجتماعية جارفة، ويجعله مصدر تهديد لسلم المنطقة، ويحوّله بين لحظة وأخرى إلى ساحة تصفية حسابات ايرانية – سورية – إسرائيلية، على الأمم المتحدة أن تنظر إلى لبنان كدولة فاشلة تشكل تهديداً للسلم والأمن الدوليين، والعمل على تأمين توافق على صعيد الامم المتحدة لاستصدار قرار يعلن تحييد لبنان، مع ما يترتب عليه من نتائج قانونية ملزمة، كما يصار الى ضمان احترام هذا الحياد من قِبل كل الدول، وعلى رأسها إيران وسوريا وإسرائيل، بما يؤمن مظلة قانونية أممية للحياد تسمح بتنفيذ ميثاق الوفاق الوطني والمحافظة على السلم الأهلي فيه.
ما يثبّت اقتناعنا بدعم صرخة البطريرك الراعي والسعي معه إلى تنفيذ بنود الوثيقة التاريخية التي أطلقها في بكركي يوم 27 شباط 2021 لإنعقاد مؤتمر دولي من أجل حياد لبنان.

بطرس حرب