سقوط “مبادرة” عون: برّي عتبَ.. فرنسا نصحتْ والسعودية تشدّدتْ

يذهب لبنان أكثر فأكثر إلى الفوضى. العبثية تتحكم بكل المفاصل السياسية. لا مبادرة تبدو قادرة على النجاح. في الأسابيع الثلاثة الماضية، ظهرت مبادرة جديدة، لم يرض بها الرئيس سعد الحريري لأنه اعتبرها مناورة، وليست عرضاً رسمياً. عشية مغادرته إلى دولة قطر، زار اللواء عباس إبراهيم بيت الوسط، التقى الحريري، وقدّم له عرضاً، نقلاً عن لسان رئيس الجمهورية، بأنه يرضى بحكومة من 18 وزيراً بلا ثلث معطل، بشرط الحصول على وزارة الداخلية. اعتبر الرئيس المكلف ما يجري مناورة على غرار مناورة وزارة المال أيام تكليف مصطفى أديب بتشكيل الحكومة، فينتزع عون الداخلية ومن ثم تثار عقد أخرى. لم تكن هذه العقدة وحدها التي تتحكم بمصير تشكيل الحكومة، على الرغم من بقائها في صيغة الـ18، فهناك خلاف أساسي حول الحقائب وكيفية توزيعها، ومسألة أسماء وزراء حزب الله.

ولكن كانت المبادرة جيدة نسبياً، خصوصاً أن ابراهيم قد أبلغ حزب الله بها، وكذلك الرئيس نبيه برّي. عُرض على الحريري أن يقبل بمنح الداخلية لعون، ولكن أن يبقي ورقة القبول بإسم الوزير المقترح في جيبه. وحينها لا يتمكن عون من تعيين وزير لا يرضى به تيار المستقبل. بهذا المنطق تمت محاولة إقناع الحريري بالموافقة. لكنه قال إنه ذاهب إلى قطر ويناقش المقترح بعد عودته.

ثلاثة أسئلة
في هذا الوقت كانت تطرح تساؤلات كثيرة حول حقيقة موقف عون وحزب الله والحريري من مسألة تشكيل الحكومة. السؤال الأول الذي طُرح، هل حزب الله جاهز لتشكيل الحكومة أم يفضل بقاء الأمر معلقاً بانتظار المفاوضات الإيرانية الأميركية؟ الجواب السريع على ذلك أتى أن الحزب إذا ما أراد التأجيل، فذلك لأنه لن يكون قادراً على فرض شروطه. أما بحال تشكلت حكومة تراعي شروطه ولن تكون قادرة على مواجهته، فهو لا يمانع. وبذلك يكون قد كسب ورقة قبل المفاوضات، ويستخدمها أكثر في مرحلة لاحقة.

السؤال الثاني، هل رئيس الجمهورية يريد الحريري في رئاسة الحكومة؟ الجواب البديهي هو أن عون لا يريد الحريري من دون باسيل. ولكن بعد ضغوط وجملة نقاط حققها الحريري وسجلها في صالحه، رضخ عون وباسيل للأمر الواقع. لكن عون يقبل تشكيل حكومة بحالة واحدة، وهي عدم التنازل وعدم الخروج خاسراً. هنا، يتطور النقاش إلى مسألة الثلث المعطل، والذي رفضه حزب الله، وإيران وروسيا. أمام هذا الواقع، أصبح من المستحيل على عون الحصول على هذا الثلث لوحده. وبالتالي، يعزز حصته في الحقائب، وقادر على امتلاك الثلث “الضامن” (أو بالأحرى “المعطل”) بناء على علاقته بالحزب. وهو يعرف أن حزب الله لن يخذله، خصوصاً بعد مواقف البطريرك الماروني.

السؤال الثالث، هل يريد الحريري تشكيل حكومة في هذه الظروف، والبلد يذهب نحو الانفجار؟ الجواب البديهي الأول، أن الرجل أذكى من أن يخوض مواجهة في حكومته مع الشارع، أو في ظل ارتفاع سعر صرف الدولار، واتساع مدى النقاش في رفع الدعم. هو يمسك ورقة قوية وهي التكليف. لا أحد غيره سيكون رئيساً للحكومة. وعندما يحين الوقت يكون جاهزاً. جواب ثان يقول، إن الحريري لن يخطئ الحساب، ولن يقدم أي تنازل يؤدي إلى خسارته شعبياً، خصوصاً أنه يحظى بدعم عربي ودولي، مصري، إماراتي، فرنسي وروسي. هنا ثمة من طرح سؤالاً عن حقيقة موقف السعودية، وهل أن الحريري سيشكل حكومة من دون رضى المملكة ومن دون زيارتها؟ يأتي الجواب بأن ذلك يرتبط بشكل الحكومة ومضمونها، وما يمكن أن تحرزه من ثقة أمام المجتمعين العربي والدولي.

مناورة.. واستياء سعودي
ركز حزب الله وعون الهجوم على الحريري، باعتبار أنه ينتظر إشارة سعودية. ما دفعه إلى الخروج ببيان غاضب، اتهم فيه حزب الله بأنه هو الذي ينتظر التوجيهات الإيرانية، بينما هو لا ينتظر قراراً لا من السعودية ولا من غيرها. كان كلام الحريري جديداً من نوعه، ومرتفع السقف جداً تجاه الحزب وتجاه السعودية أيضاً، خصوصاً أن بعض المعلومات تفيد عن استياء سعودي من هذا التصريح، طالما أنه تقصد تسمية المملكة بالإسم. ولكن لماذا هذا الانفعال؟

الحريري شعر أولاً بتعرضه لمناورة. اعتبر أن حزب الله يذهب باتجاه عون أكثر منه. وثانياً، لا يريد أن يتحمل هو المسؤولية ويتعرض لحملة إعلامية تركز على هذه النقطة. وثالثاً، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يحاول أن يتواصل مع السعوديين لتليين موقفهم. لكن الخلاف السعودي الفرنسي استمر. ولذلك، تأجلت زيارة ماكرون إلى السعودية لأجل غير مسمى. ورابعاً، استاء الحريري من طريقة تعاطي عون وباسيل مع المبادرة التي تقدم بها رئيس الجمهورية، لأنه بعد مفاتحته بها، سأل عن موقف باسيل منها، فقيل له إنه لا يمانع بحال حصل اتفاق بين رئيسي الحكومة والجمهورية. هنا سأل الحريري عن ثقة تكتل لبنان القوي، وقال إذا وافق التكتل على إعطاء الثقة للحكومة، يكون لعون 6 وزراء، أما بحال رفض التكتل ذلك، فتكون حصة عون 3 وزراء وليس 6. خصوصاً أن الحريري يعتبر أن وزراء عون يعني وزراء باسيل.

رسالة بري ونصيحة الفرنسيين
تصاعد منسوب السجال والخلاف. أرسل الرئيس نبيه بري رسالة إلى الحريري، مفادها أنه أخطأ في طريقة التفاوض. فأولاً، هو كان يرفض التفاوض مع باسيل وحصر تفاوضه مع رئيس الجمهورية. بطرح هذه المعضلة من جديد، سيعيد باسيل إلى واجهة التفاوض. ثانياً، كان باسيل قد أعلن أنه لا يريد المشاركة. بناء على طرح الحريري، سيدفع باسيل إلى التركيز على نقطة أنه لا يريد المشاركة والحريري هو الذي يصر على مشاركته، وعلى تحصيل ثقة نواب تكتله. كان ذلك يحدث على وقع تصريحات أطلقها نائب الأمين العام لحزب الله، وبعد أن تلقى الحريري اتصالاً فرنسياً يسأله عن حقيقة المبادرة التي تقدم بها عون.

اعتبر الفرنسيون أن الحريري لم يخبرهم بهذه المبادرة. وعندما سألوه، قال إنها مناورة وفخ ينصب له. لكن الفرنسيين نصحوه أن لا يخسر الفرصة. وكذلك تلقى نصائح من قوى عديدة بأنه في حال كان يعتقد أن عون يمارس التقية معه، فليبقى وراءه ويلاحقه إلى النهاية. اتصال باتريك دوريل بالحريري، جاء بعد اتصال أجراه بعون، وباسيل، واللواء عباس إبراهيم، والرئيس نبيه بري، ووليد جنبلاط. في هذا الوقت، كان السفير المصري السابق في لبنان، نزيه النجاري، والذي أصبح معاوناً لوزير الخارجية المصري، قد زار باريس، والتقى مسؤولين في الخارجية الفرنسية بحث معهم الملف اللبناني. وكان الموقف المصري داعماً للحريري بوضوح.

الفوضى تتقدم
لم تنجح المبادرة. مساء السبت، وعلى وقع تحركات احتجاجية في الشارع، أجرى المستشار في قصر الإيلزيه باتريك دوريل سلسلة اتصالات جديدة بالمسؤولين اللبنانيين، مشدداً على أن لا مخرج من دون تشكيل حكومة، وإلا فحركة الشارع ستكون أعنف. وفي مقابل الشارع الذي يغلي، والدولار الذي يطير، تبدو القوى السياسية عاجزة عن إدارة الانهيار، أو التحكم فيه، على الرغم من كل محاولات ركب موجة مواكبته.

الفوضى تتقدم، ووحدها التي ستكون متحكمة بالمسار والمصير. أقصى ما يمكن للقوى السياسية أن تفعله هو الإنهماك فيها، بظل عدم إقدام أي طرف من أطرافها على التنازل، والتخلي عن جزء من سلطاتها، فيما هي ترى أن أي تخلّ أو تنازل، سيكون مقتلاً بالنسبة إليها.

منير الربيع-المدن