كلام البطريرك… بطريرك الكلام

أخطر الكلام السياسي في لبنان هو أبسطه. هذه المعادلة تعرفها أيضًا المجتمعات التعدّدية، التي تعبّر عن مشاكلها العميقة وأزماتها بكلام بسيط ومباشر..بسلبياته وبإيجابياته. مطلب التقسيم أو مطلب الضم القسري، أو مطلب التطهير أو نقيضة، كلها مطالب عرفتها المجتمعات “المصابة” بالتنوع والتعدد..

يخرج الكلام بسيطًا. هيّنًا. وبمفردات قليلة. وهو ما يكون الكلام الأخطر عادةً، والأكثر تعريفًا بالمشاريع المتصارعة، بصلبها وحقيقتها.

هكذا كان كلام البطريرك أمس: كلام بسيط، وكلام خطير في الوقت نفسه.

الجمل القصيرة رسائل مباشرة. تضيء حيث يجب، وتؤلم حيث ينبغي، وتحرّض حيث تشعر الكنيسة أنّ الهمة الوطنية فترت بتراكم النكسات والخيبات.

أسمح لنفسي أن أستعير من الراحل الكبير رفيق الحريري قوله في نص “السيد” مار نصرالله بطرس صفير:

“كلام البطريرك، بطريرك الكلام”.

هكذا كان صوت الكنيسة أمس بلسان مار بشارة بطرس الراعي، بطريرك لبنان واللبنانيين، قبل أنطاكية وسائر المشرق وبعدهما.

فلبنان فعلًا “يكون للجميع أو لا يكون.

أيوجد أبسط من هذه العبارة؟ أيوجد أخطر منها؟
خلع البطريرك كل القفازات أمس، وتحدّث بما لا يقبل الشكّ عن “محاولة انقلابية” جارية على مصالح اللبنانيين، كل اللبنانيين، ومستقبلهم، ومقدراتهم وموقعهم في المشرق والعالم.

والاهم أنه عاد إلى الأساس، وفق مرتكزَيْن لم تتَخلَّ عنهما الكنيسة يومًا .

1- الكيان = الحياد:

لم يراوغ البطريرك وهو يذكّر أنّ لبنان خُلق في إطار وظيفة سياسية وحضارية وثقافية وفكرية عنوانها الحياد، الذي يتيح لهذا البلد الصغير أن يكون المختبر التعدديّ التعايشيّ الذي يجب أن يكونه بين المسلمين والمسيحيين، في شرق ما بعد السلطنة العثمانية وانفجار الهويات..

فالأزمة أزمة كيانية بحسب توصيفه، يتهددها السلاح غير الشرعي في الداخل، والسعي المحموم لربط لبنان بمحور إقليمي محدد بالمعنى العملي والعملياتي، لا بمعنى الرأي والموقف، كما تتهدده أزمات ناتجة عن انهيار الإدارة في الداخل، والنزوح الناتج عن انهيار الدول في محيطه لا سيما الانهيار السوري المهول..

2- الكنيسة والدولة:

لم يتوقف البطريرك عند كل الكلام الاتهامي الذي رافق الحملة على موقفه من السلاح غير الشرعي بحوزة ميليشيا حزب الله.

عاد إلى أساس موقف الكنيسة الرافض للتمرد، كل تمرد، على الدولة.

بصراحة وبوضوح لن يكون حسن نصرالله أقرب إلى وجدان الموارنة من بشير الجميّل. مع ذلك، يفيد نصرالله أن يتذكر أو يقرأ عن موقف الكنيسة المضاد لبشير. ما كان هذا الموقف يومها صادرًا من موقع الاعتراض على قضية بشير، ولا من موقع مذهبي، بل من موقع واحد وبسيط: الكنيسة لا تغطي أيّ تمرد على الدولة. الكنيسة التي لم تغطِّ تمرد بعض الموارنة على الدولة، لن تغطي تمرد بعض الشيعة عليها..

أما المؤتمر الدولي فهو نابع من الفهم الدقيق والعميق لفكرة الحياد وشروط نجاحه. في الأشهر الأخيرة من حياته، كان الوزير الشهيد محمد شطح يُكثر من شرح فكرة الحياد، بأنها لا تكمن في أن يعلن لبنان حياده. فلبنان بلد صغير ودولة ضعيفة ولا قيمة لما يقرره في هذا المجال. إنّ الحياد إنما يكمن في اقتناع الدول المؤثرة في لبنان بضرورة تحييده، وهو ما لا باب إليه إلا من خلال مؤتمر دولي يضع الجميع أمام مسؤولياتهم.

ليس بلا دلالة في هذا السياق أنّ البند الأول في الرسالة التي كتبها الشهيد شطح، وكان يسعى لأن توجه إلى الرئيس الإيراني حسن روحاني، المنتخب حديثًا يومها، باسم مجموعة سياسية لبنانية، إما تيار المستقبل وإما أوسع، ينص على التالي:

“التزام معلن من جميع البلدان الأخرى، بما في ذلك إيران، بتحييد لبنان بحسب ما ينص عليه إعلان بعبدا. من الواضح أنه لا يكفي أن يعلن لبنان رغبته في اعتماد الحياد. الأهم هو أنه على البلدان الأخرى أن تلتزم حماية رغبة لبنان الوطنية”.

لذلك يفهم البطريرك الماروني أنّ الحياد قرار دولي يلاقي رغبة لبنانية. وكما شطح، المتّقد الذكاء، والرفيع الكفاءة، يفهم أنّ التدويل هو مدخل لحماية لبنان في وجه أكاذيب السيادة والحرية والوطنية، التي ينتحلها البعض لتفريغ البلد من كل مقومات السيادة ومكونات الحريات وعناصر المناعة الوطنية.

أشير هنا إلى الدعوة التي تلقّاها البطريرك الراعي من دولة الإمارات العربية المتحدة، والتي ينبغي أن تُترجَم زيارةً قريبة إلى هذه الدولة، عساها تكون فاتحة لحوار حول وحدة الكيان والحياد، وتدعيم الشرعية من باب وضع مزارع شبعا (والحدود البحرية) على طاولة البحث الجِدّي والحاسم. فالإمارات في موقع مثالي بحكم علاقاتها بكل الأطراف المعنية بهذه البقعة، التي يراد منها تأبيد الصراع لتأبيد السلاح، خدمةً لوظائف لا تتعلق بمستقبل اللبنانيين إلا انتحالًا وتزويرًا، ويمكنها من هذا الموقع أن تعين اللبنانيين على بدء رحلة استكمال السيادة والاستقلال..

صوت البطريرك بدأ يجد صداه العربيّ والدولي، باسم أغلبية لبنانية، لا تملك أيّ مشروع احتراب أهلي، بل تتطلع إلى بنيان وطني واحد يتسع للجميع، وينطلق بهم نحو استعادة الجانب المُشرق من التجربة اللبنانية، في الاقتصاد والاجتماع والعلم والمؤسسات، والاقتصاد والازدهار..

فعلًا كان كلام البطريرك .. بطريرك الكلام.

 

نديم قطيش – أساس ميديا