شكرًا إبراهيم الأمين

كثير من اللغط والاستهجان أثارته مقالة رئيس تحرير صحيفة “الأخبار” إبراهيم الأمين، المعنونة “أوّل الكلام”، بعد اغتيال لقمان سليم، والمنشورة بتاريخ 15 شباط 2021.

بدت المقالة لكثيرين، تشريعًا للقتل، بلا أيّ ذرّة ارتباك، وامتدادًا موضوعيًّا للحملة على لقمان سليم ومن مثله، التي كانت “الأخبار” في صدارتها، تحت عنوان: “فضح العملاء والمتعاملين مع إسرائيل وأميركا”!

بعد القتل كما قبله نصًّا وروحًا.

ألم يكن الأمين هو من وصف بدقة لا متناهية، المصير الذي لاقاه لقمان حين سأله وسأل من مثله في افتتاحية سابقة في 17 أيلول 2012، بعنوان: “لا مكان بيننا للخونة” حين كتب:

“ألا يتحسّس هؤلاء رقابهم وهم يخرجون يوميًّا من منازلهم النجسة؟ ألا يرَوْن وصمات العار وهي ترتسم فوق جباههم، فيما الناس يرمقونهم بنظرة الحقارة؟ أم هم يعتقدون بأنهم سوف ينجون بفعلتهم إن هم قرروا أنّ عمالتهم هي مجرد وجهة نظر، أو مجرد رأي، يمكن، بل يجوز منطقيًّا ووطنيًّا وأخلاقيًّا إشهاره في وجه المقاومة؟”.

ألم يقل في المقالة نفسها يومها، إنه على لقمان ومن مثله: “الابتعاد عن غضب الناس الآتي إليهم في أيّ لحظة، (…) وربما وجَب على هؤلاء معرفة أنهم تحت النظر، وتحت المتابعة لكل الموبقات التي يقومون بها”، متوعدًا إيّاهم بـ”محاصرتهم حتى إفقادهم كل قدرة على النطق بالكفر”.

حسنًا ها هو غضب الناس قد جاء، وها هو لقمان وقد فقَد القدرة على النطق بالكفر..

وأما بعد، فافتتاحية “أوّل الكلام” للأمين، يعيد فيها التأكيد أنّ من قُتل، قُتل بصفته ممّن ينتمون إلى “المحور الذي تقوده أميركا والسعودية والإمارات (و”إسرائيل”)، وهدفه واضح ومحدّد: أن يكونوا ضمن فلك الغرب وربيبته اسرائيل وأتباعهم”. ويؤكد الأمين “لن نتوقف عن التشهير بكم حيث تعملون، وحيث تخدمون فرقة التحالف الشرير مع “إسرائيل”، بقصد تدمير بقية الذات العربية في فلسطين ومحيطها”.

لا فُضّ فوك.

الحقيقة أنّ مقالة إبراهيم الأمين تستحق الشكر لا الاستنكار. وتستحقّ التشجيع على أن تكون أكثر إفصاحًا وأقل تكلّفًا في المقبل من الأيام. ساءني، حقيقةً، أن يتعثّر الكاتب بنصف إقدام، فلم يفصح تمامًا عما ألمح إليه، متوسّلًا الكثير من اللغو والتطريز لتغطية سطحية الفكرة، حتى اختلط عليّ ما إذا كان الرجل يكتب للقرّاء، أم يخطب في الجماهير!

رغم ذلك، تستحق المقالة الشكر، لأنّها لا تلبس كل لبوس السفالة الذي عهدناه بعد كل اغتيال، كأن يتقدم المصفقون للقتَلة صفوف المعزين، بحزن مزيّف وتضامن مَقيت، وتشاركيّة دنيئة تشبه أكل لحم الميت بعد قتله.

المقالة ببساطة رسالة واضحة لا تحتمل الالتباس، ولو حملت بعض عبارات الامتعاض من توجيه أصابع الاتهام لحزب الله بالمسؤولية السياسية عن اغتيال لقمان سليم. وأراها أكثر محاولة موثقة لتجاوز السجال التافه الذي يعقب كل اغتيال، من باب تأكيدها أنّ من قُتل يستحق القتل في سياق معركة أوسع وأكبر. فالرجل يتحدث بوضوح عن “العداوة بين فكرتين ومشروعين وتوجّهين، وبالتالي تصوّرين: سياسيين واقتصاديين، وثقافيين وتربويين واعلاميين، وكذلك بين نمطين للحياة اليومية، وبين منظومتين لإدارة شؤون الناس جميعًا. وهو ما يمثّل صلب الصراع اليوم”.

وفي العداوة، يصير القتل، كقتل لقمان سليم، آليةً تقنية من آليات الصراع المحكومة بالمصلحة والتوقيت، لا بمبدأ حرمة الدم واستهوال سفكه.

سأتجاوز حقيقة أنّ لقمان سليم غير مسلح، وأنّ حدود مونته على سلاح أميركا وإسرائيل، إن توافرت، فستكون إهانةً لأميركا وإسرائيل، قبل أن تكون عدوانًا على من يفترض الأمين وصحبه أنّ لقمان يعتدي عليهم.. وسأتجاوز أنّ لقمان حين كان يحذّر من الألم والرعب الآتي لا محالة، إذا ما استمرت أوهام حزب الله في فعل فعلها، كان يحذر من سيناريوهات متداولة ومعلنة وبعضها مجرب منذ حرب 2006.

سأتجاوز كل ذلك لأن لا فائدة من المحاججة مع حزب الله والناطقين باسم سلاحه، بمسمّيات الإعلام والتعليق السياسي. فما كان يومًا ضعف الحجّة هو ما يعوزنا للتوصل إلى تفاهمات مع حزب الله حول سلاحه، ولا كانت قوة الحجة هي سبيل حزب الله لفرض التسويات التي تناسبه.

أهمية مقالة الأمين أنها تقرّ، على بعض الحياء، بهوية القاتل، وتستفيض في تعداد دوافعه، وتعقلن الجريمة برسم الحدود الأوسع لسياقها الصراعي، وهذا لعمري، أقصى ما يمكن طلبه من الأمين وجماعته، حزبًا وجمهورًا وبيئة وأهلًا.

الأمين امتلك نصف الإقدام ليقول إنّ القتيل عميل يستحق القتل، وإنّ القاتل مقاوم يمتلك مشروعية سفك الدم.

لنتفق أنّ هذه المعادلة هي التي تحكم الصراع بين كتلة لبنانية عريضة ومتنوعة، وبين حزب الله، وأنّ هذه المعادلة هي التي تحدّد قواعد الاشتباك، ولنكفّ عن التكاذب حول ضرورة احترام الصفات التمثيلية والعيش المشترك، والنظام العام والدستور والسلم الأهلي، وبقية الهراء اللبناني..
نعم، لقمان سليم ومن مثله متآمرون على نظام الفصل العنصري الذي يقوده حزب الله بسلاحه العاري، خارج الدستور والقانون وتقاليد الحياة الوطنية، وهم ساعون لإسقاطه بكل ما أوتوا من قدرات الناس العزّل.. هم يفعلون هذا بكامل لبنانيتهم. وأنتم تقولون إنه يفعلونه بكامل عمالتهم.

حسنًا! كل ما نريده منكم هو المزيد من الإقدام في توصيف القاتل والقتيل وفق قناعاتكم التي عبّر عنها عقائدياً إبراهيم الأمين، وإسقاط اللعبة السخيفة التي حاول حسن نصرالله استئنافها في خطابه الأخير، من باب أنّ إسرائيل تقتل حلفاءها، محاولًا استعادة تواريخ مبعثرة في التجربة اليهودية وإسقاطها على واقعة الاغتيال..

لقمان سليم قتيل محترم.. ليكن قاتله محترمًا ولو بعض الشيء.. وليكن “أوّل الكلام” أوّله فعلًا، حيث إنّنا في وسط حرب أهلية يتحايل اللبنانيون على كَتْم قيدها.

نديم قطيش – أساس ميديا