تحقيق المرفأ (2/2): الحزب يشقّ أهالي الضحايا

لم يعد خافيًا أنّ مواقع السلطة في التحالف الحاكم، تهدف إلى التخلّص من الملفات والقضايا التي تدينها أو تشكل عائقًا أمام استمرار سيطرتها على البلد، عبر تسخير مؤسسات الدولة الدستورية والأمنية والقضائية لمصالحها، فتلجأ إلى القمع وخنق الحريات، وتلغيم الحالات المعارِضة وشيطنتها، ثمّ تحويلها إلى حالاتٍ “إرهابية” خارجة عن القانون، كما حصل مع الثوار في طرابلس الذين تحوّلوا في المحكمة العسكرية إلى “إرهابيين” وسارقين، وكما يجري استدراج أهالي ضحايا تفجير المرفأ إلى الصدام العنيف مع القوى الأمنية.

يواجه أهالي ضحايا تفجير المرفأ صلَف السلطة وعجرفتها، وبدأوا يفهمون الجزء الأكبر من ألاعيبها، وهي المتحكِّمة بمفاصل القرار، ويدركون أنّ صراع أهل هذه السلطة إنما يأتي في إطار إعادة التموضع لتبادل التهديدات والمصالح. وقد لمسوا كيف جرى التلاعب بتعيين القضاة وتضليل التحقيق وتجاهل الأولويات، والتدخل الفجّ للسلطة بأعمال القضاء، خصوصًا عندما وصل الأمر إلى “المسّ بالحصانات”، وانسياق القاضي صوان في مخطّط أتاح المجال لإخراجه من الملف، من خلال تصريحه بأنّ يصرّ على تخطّي الحصانات المنصوص عنها في الدستور.

أبرز تدخّلٍ في هذا الملف، جاء على لسان الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصرالله، الذي دعا القضاء إلى “إعلان نتيجة التحقيق الفنّي والتقني… بعد ذلك اذهب إلى تحميل المسؤوليات وخذ وقتك وحقّق وقاضِ”. كأنّه أراد الإسراع في إنهاء التحقيق، خصوصاً مع عدم تسليم الفرنسيين نتيجة تحقيقاتهم وإعلان الأميركيين أنّ تحقيق الـFBI لم يصل إلى نتائج حاسمة. إضافة إلى بروز دور للنظام السوري في استبقاء شحنة نيترات الأمونيوم في المرفأ على مدى سنوات.
في سياق التفخيخ الذي تلجأ إليه السلطة في قضية تفجير المرفأ، انكشف اختراق صفوف أهالي الضحايا ودفعهم إلى تغيير طبيعة تحركاتهم السلمية، وخلطهم بآخرين، قد يتخذون صفة “الثوار” فينتقلون إلى أعمال العنف ليستدرجوا بعض الأهالي إلى اقتحام مقرّات الدولة وإحراقها، أو الاصطدام العنيف بالقوى الأمنية وإيقاع الخسائر في صفوفها، أو الاعتداء على آلياتها. ما يُمكّن أحزاب السلطة من شيطنتهم وتحويلهم من ضحايا إلى “مجرمين”، كما حصل ويحصل مع ثوار طرابلس المتّهمين بالإرهاب حاليًّا.

بدأت ملامح هذا الاتجاه تظهر مع الخلط المستغرب لبعض الأهالي مع “ثوار” مجهولين، دعا بعضهم لاستيفاء الحقّ بالقوة ولتصعيدٍ يؤدي إلى تعطيل مرافق حيوية في بيروت، خلال اعتصام أمام قصر العدل في بيروت. وهو أمر يرفض الأهالي القيام به، ولا يعتبرونه المسلك الصحيح لقضيتهم. والغريب هو أنّ هذه المجموعة تُحظى بتغطية سياسية وإعلامية مكثّفة، بينما يغيب الإعلام عن تغطية تحركات الأهالي الآخرين.

يستثمر “حزب الله” وجود عدد من الضحايا الشيعة بين ضحايا تفجير المرفأ، لإثارة الانقسام بين الأهالي، ومحاولة السيطرة على الملف، وهذا ما ظهر من خلال بروز من يعتبر نفسه ناطقًا باسم الأهالي واسمه “إبراهيم حطيط”. وهو تصدّر المشهد الإعلامي، وقابل القاضي صوّان، ثم القاضي بيطار، وأطلق مواقف تستدعي الانتباه، ومنها: تهديده بتصعيد ميداني كبير. ليتّضح لاحقًا أنّ حطيط ينشط في دائرة “حزب الله” ويدير موقع “السكسكية أون لاين”، ويسعى إلى تكريس لجنته كمرجعية حصرية بالأهالي، عبر تأمين مقرٍّ لها وحصر المساعدات الموجهة للأهالي بها.

الوجه الآخر لحطيط أنّه ينشط كرجل دين يعمل على جمع التبرعات قبل تفجير المرفأ، وهو يقوم بعد التفجير بالاتصال بمؤسسات عدّة في لبنان، وبالمغتربين في الخارج، طالبًا منهم مساعدة الأهالي، من خلال “لجنته” التي تستثني القسم الأكبر من أهالي الضحايا، ويتسم المشاركون فيها بالانتماء الآحادي المذهبي والسياسي. وهذا ما أثار رفض الأغلبية الساحقة من الأهالي الذين يُحضِّرون لتحرّكٍ مقابل يضعون خلاله النقاط على الحروف.
عبّر حطيط بوضوح عن ملاقاته للتوجّه السياسي لـ”حزب الله”، عندما هاجم رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع من دون أن يسمّيه، منتقدًا “قادة الحرب الأهلية” الذين قال إنّهم “يركبون الموجة عبر طرح التحقيق الدولي المرفوض” من قِبله. وفي هذا يلاقي موقف حزب الله من مسألة الاستعانة بالجهات الدولية، فضلًا عن مبالغته الواضحة في كيل المديح للقاضي بيطار، قبل أن تظهر منه أيّ بادرة فعلية في التحقيق، الأمر الذي يثير الشكوك في مجمل هذه التطورات، وما يُراد منها.
يغيب الحضور الأهلي المسيحي الفاعل عن “لجنة ابراهيم حطيط”، الذي يستقوي بخلفيته السياسية عند التهديد بالتصعيد الميداني. ما يجعل هذا التحرّك مشوبًا بالكثير من علامات الاستفهام حول حقيقة وخلفية هذا الظهور، والدعم الذي يحظى به ليتمكّن من فرض نفسه طرفًا محاوِرًا مع القضاء ومع الوزارات، والبدء في حرف القضية عن مسارها، وتحويلها إلى قضية خلافية يسهل استبعادها وطيّ صفحتها.

إنّ أسوأ ما يمكن أن تتعرّض له قضية أهالي ضحايا تفجير المرفأ، هو الفرز الطائفي والمذهبي. فالجريمة استهدفت الناس من دون النظر إلى هذه الانتماءات، ووجودُ بعض الأشخاص ضمن أهالي الضحايا، مثل إبراهيم حطيط، الذي فقد شقيقه الشهيد “ثروت” في التفجير، لا يخوّله الذهاب بعيدًا في الاستفراد وخلط الأوراق، وتحويل القضية إلى منطلقٍ للاستهداف السياسي والطائفي. لأنّ أغلبية الضحايا هم أهل بيروت بأحيائها ذات الطابع المسيحي العريق، وأيّ محاولة لتغييب حقوق وآراء ومواقف هذه الفئة، ستكون خدمة مباشرة للسلطة وأحزابها، وضربًا للحقيقة والقضية.

 

أحمد الأيوبي – أساس ميديا