عودة: المواطن فقد الثقة بدولته وما يقوم به الفعلة يجلب الموت البطيء

ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الأرثوذكس المطران الياس عودة، قداس الأحد في كاتدرائية القديس جاورجيوس وسط بيروت.

بعد الإنجيل المقدس ألقى عظة قال فيها: “يخبرنا إنجيل اليوم عن تدبير الله الخلاصي، وكيف خلق لنا الله كل شيء وجعله آمنا، وفي المقابل كيف تصرفنا نحن البشر إزاء ما قام به من أجلنا. في المقطع الإنجيلي مثل عن إنسان، رب بيت، غرس كرما وحوطه بسياج وحفر فيه معصرة وبنى برجا وسلمه إلى عملة وسافر. رب البيت الذي يخبرنا عنه الرب يسوع هو الله الآب، الذي خلق لنا السماء والأرض وكل ما فيهما، ثم قال لنا، بشخص آدم وحواء: أثمروا واكثروا واملأوا الأرض، وأخضعوها (تك 1: 28). لقد سلمنا الله الكون وكل ما فيه لنرعاه، وليكون تذوقا مسبقا عن الملكوت. وضع بين أيدينا عالما آمنا، محوطا بسياج، مليئا بالطعام والشراب والطمأنينة، في وسطه برج يحافظ على سلامه وأمنه، وهذا البرج هو العائلة المحصنة ببركته. وثق الله بنا، وبأننا سنكون عملة أمناء على الوديعة التي وضعها في عهدتنا، فماذا فعلنا؟”

أضاف: “لما قرب أوان الثمر، أرسل (السيد) عبيده إلى العملة ليأخذوا ثمره، فأخذ العملة عبيده وجلدوا بعضا، وقتلوا بعضا، ورجموا بعضا”. بدلا من أن يحفظ البشر الوديعة خانوها. تسلل الجشع والكبرياء إلى النفوس، فظنوا أنهم أصبحوا سادة الكرم، وتناسوا أن هناك سيدا سوف يأتي ويطالب بثمره. نقول في القداس الإلهي: التي لك، مما لك، نقدمها لك، وبهذا تعترف الكنيسة بأن الله هو مانح كل شيء، وما نحن إلا عمال نسعى إلى مضاعفة الوزنات الموضوعة في عهدتنا، وعلينا إعادة تسليمها بعد توظيفها ومضاعفتها. لقد منح الله كل إنسان منا موهبة أو أكثر، لكي يعمل على تثميرها وإفادة الآخرين بها، وهكذا يكون قد أعاد الثمر إلى الرب من خلال إخوته البشر. لكن، ثمة من يظن أن مواهبه هي من ذاته، فينتفخ ويعظم في عيني نفسه ويستكبر على الآخرين. وإن أتاه من يذكره بالرب وكلامه، يتخذه عدوا، ويبدأ بمحاربته، تماما كما فعل البشر مع الأنبياء الذين أرسلهم الله إليهم، فقتلوا من قتلوا، ونكلوا بغيرهم، وطردوا آخرين. هذا ما قام به العملة مع كل من أرسلهم رب البيت: فأرسل عبيدا آخرين أكثر من الأولين فصنعوا بهم كذلك. يظن البشر أحيانا أن الله ليس موجودا، فقط لأنهم لا يرونه، لذلك يسيئون معاملة كل من هم حولهم، خصوصا الذين يتقون الله، لأن مثل هؤلاء يفضحون شرهم”.

وتابع: “أرسل الله الأنبياء ليحاولوا إعادة البشر إلى طريق الكلمة الإلهية، لكنهم لم يحفظوا ناموس الرب، ورفضوا الأنبياء وقتلوهم. حينئذ، أرسل إليهم ابنه الوحيد، الوريث، لكنهم لم يهابوه، وقتلوه أيضا. أعمى الطمع عيونهم فقالوا: هذا هو الوارث، هلم نقتله ونستولي على ميراثه. أرسل الله ابنه الوحيد لكي يخلصنا ويعيدنا إليه، لكن كثيرين انزعجوا من كلامه الإلهي، وفضح نوره ظلامهم، فقرروا التخلص منه، وصلبوه ظنا منهم أنه إنسان عادي يستطيعون إسكاته بالموت. لكن المسيح قام، وكانت قيامته مدوية، لا يزال صداها يتردد حتى اليوم”.

وقال: “يا أحبة، لبنان كرم غرسه الرب، وسنوه تمتد إلى العهد القديم. لبنان المذكور أكثر من سبعين مرة في الكتاب المقدس يحمل بركة من الرب، يحاول كثيرون نزعها منه. الحروب التي شنت على بلدنا كثيرة، وأنواعها متعددة. حاولوا تدميره بالسلاح، فقام من تحت الركام، حاولوا تغيير وجهه الثقافي فلم يستطيعوا، لكنهم ما زالوا يحاولون. عملوا على تهجير أدمغته، ومن لم يهاجر اغتالوه. حاربوا القيم والأخلاق من خلال زعزعة أسس العائلة، ولا يزالون. لبنان الصغير بين إخوته، هو كبير بأبنائه، الذين يدهشون العالم كل حين، أينما حلوا، وقد أدهشوه أكثر بعد آخر نكبة أصابتهم قبل شهر من اليوم. ظنوا أنهم سيصغرون لبنان إن فجروه وشرذموا أبناءه، إلا أن الكارثة أعادت اللحمة بين إخوة الوطن الواحد. لبنان ليس حبرا على ورق، بل هو واقع يتجلى كل حين بقيامة تلو الأخرى. لبنان لا يكبر بالمهرجانات الخطابية، ولا بالاستنكارات والوعود. لبنان يكبر بالأفعال، وخصوصا إذا كانت أفعال محبة وصدق وتضحية كالتي شاهدناها أخيرا. لبنان لم يقتله التفجير الذي أصاب قلبه، عاصمته الحبيبة بيروت، بل كان هذا التفجير صدمة كهربائية أعادت لهذا القلب نبضه، على الرغم من الموت والدمار الذي خلفهما”.

أضاف: “الكارثة وحدت سكان بيروت المنكوبة، والأمل بإعادة بنائها جمعهم. لبنان يكبر بأبنائه المتحدين، الممسكين بعضهم بعضا يدا بيد، ويصغر بأبناء يرفعون السلاح في وجه بعضهم يتقاتلون أو يغدرون بعضهم بخنجر في الظهر. لبنان، هذا الكرم الذي نهبه العملة الذين سلمهم إياه الله ليرعوه، سيندمون عندما يقوم البلد من كبوته، وهناك يكون البكاء وصريف الأسنان. الدينونة التي تنتظرهم عظيمة، لأنهم أهملوا الأمانة وأساؤوا التصرف وعندئذ يهلك (السيد) أولئك الأردياء أردأ هلاك ويسلم الكرم إلى عملة آخرين يؤدون له الثمر في أوانه. بلدنا في حاجة إلى عملة يخافون الله، ويعملون بناموس المحبة. ما نراه اليوم لا مكان للمحبة فيه. كل ما يقوم به الفعلة الحاليون يجلب الموت البطيء على الذين لم يقضوا أجلهم بتفجير أو حادث سير ناتج عن إهمال السلامة العامة، أو غير ذلك من أساليب القتل المعنوي التي تهدد عيش المواطن ومستقبله”.

وتابع: “المواطن فقد الثقة بدولته وحكامه. من أجل استعادة هذه الثقة يلزمنا عمل دؤوب يرتكز على الجدية والشفافية والموضوعية. يلزمنا إصلاحات جذرية تستأصل كل سرطان الفساد والمحسوبية والارتهان، وكل آفات هذا المجتمع. نحن بحاجة إلى تغيير سلوكنا تجاه وطننا والتوقف عن استغلاله من أجل المصالح الشخصية. نحن بحاجة ماسة إلى أناس أوفياء للبنان. نحن بحاجة إلى دم جديد من أجل إدارة البلاد وإلى رؤية جديدة تدخل لبنان في منهجية جديدة قائمة على تطبيق الديموقراطية بكل مفاهيمها، وفصل السلطات، وتحصين القضاء بإبعاده عن السياسة والسياسيين، واحترام الدستور وتطبيقه، واعتماد المساءلة والمحاسبة، والاقتصاص من كل من يتخطى القوانين أو يسيء إلى الوطن كائنا من كان. المواطن يتطلع إلى دولة المواطنة والقانون والعدالة والمساواة. نحن نتطلع إلى دولة واحدة موحدة، إلى شعب واحد لا شعوب، إلى انتماء للوطن لا غش فيه، إلى قرار واحد للدولة لا قرارات متعددة. نريد دولة قوية متينة الكفاءة فيها هي المعيار لا المحسوبية، والقانون يضمن فيها المساواة بين المواطنين فيكونون مواطنين في دولة، متساوين في الحقوق والواجبات. نريد دولة لا شراكة فيها، لأن الشراكة تقتضي شركاء يتقاسمون الحصص، ونحن بحاجة إلى مواطنين ينتمون إلى وطن يحفظون حدوده من كل خطر، يحترمون دستوره ويطبقون قوانينه، ويصرخون كلنا للوطن، ويرددون كلنا للوطن، لا يرضون بوطن سواه”.

وسأل: “من سيعمل على تطبيق هذه المبادىء والإصلاحات؟ أعتقد أن بانتظار مجلس الوزراء الجديد عمل جبار. ولكي يقوم بهذا العمل نتمنى أن يكون أعضاؤه من ذوي العلم والخبرة والكفاءة والنزاهة والضمير الحي والقلب المحب. عليهم أن يشكلوا فريق عمل متجانسا، بعيدا من المناكفات والمحاصصات، يتحلون بالجرأة والإقدام، وهدفهم بناء دولة حديثة لا فساد فيها ولا اهتراء. عليهم أن يكونوا قدوة في محبة الوطن والتضحية من أجله لا استغلاله وإغراقه في المشاكل والديون”.

وقال: “يا أحبة، الآية الأخيرة من إنجيل اليوم تحمل لنا تعزية كبيرة في هذه الأيام السوداء التي تعصف بنا: إن الحجر الذي رذله البناؤون هو صار رأسا للزاوية. من قبل الرب كان ذلك وهو عجيب في أعيننا. البشر رذلوا الرب من حياتهم، ظانين أنهم يستطيعون بناء القصور دون أن يكون هو أساسها. لكن الرب سوف ينتصر في النهاية، لأنه محبة، وقد سمعنا في الرسالة التي تليت على مسامعنا اليوم: يا إخوة، إسهروا، أثبتوا على الإيمان، تشددوا، ولتكن أموركم كلها بالمحبة (1كو 16: 13-14) المحبة أقوى من الموت. إن عادت المحبة لتسكن في قلوب البشر، لن يكون هناك خوف على هذا الوطن ولا على عالمنا فيما بعد، لأن الملك سيعود لله”.

وختم عودة: “في الأخير، أدعوكم، إلى تطبيق وصية الرب التي أوصانا بها قبل آلامه: أحبوا بعضكم بعضا. كما أنا أحببتكم، أحبوا أنتم أيضا بعضكم بعضا. إذا أحببتم بعضكم بعضا عرف الناس جميعا أنكم تلاميذي (يو 13: 34). إذا، أحبوا، لا تنجروا وراء عشيرتكم أو حزبكم أو زعيمكم، لا تسمحوا لهم بأخذكم إلى دمار جديد قد يكون نهائيا. أحبوا، حافظوا على الكرم الذي منحكم إياه الله، وقدموا له ثمر محبتكم بلدا مزدهرا يشتهي الجميع التشبه به. بارككم الرب مواطنين يحافظون على هذا الوطن ويكونون أمناء له، ملأ الله قلوبكم بالمحبة الإلهية”.