عن الحزب وآل كابون.. وعيد الحب!

لنبدأ أولاً بهذا السؤال: ماذا كان ليتغيّر لو أنّ المحكمة أدانت المتهمين الأربعة وليس واحداً منهم فقط هو رأس الشبكة المنفّذة سليم عياش؟

لا شيء، سوى المزيد من تأكيد المؤكّد، وهو أنّ مجموعة من عناصر في حزب الله قتلت الرئيس رفيق الحريري.

هذا ما سيذكره التاريخ، وهذا ما سيحفظه اللبنانيون، وهذا هو الناظم الذي سيحكم منذ اليوم العلاقة السياسية والوطنية بمليشيا حزب الله.

ما حقّقته المحكمة، عبر إدانة واحدة أو حزمة إدانات، هو الربط المبرم بين الجريمة وبين حزب الله.

لكنّ المحكمة أقرّت بأن لا أدلة تربط بين مجموعة القتل وبين قيادة حزب الله؟

صحيح! المحكمة لم تجد دليلًا تقنياً يثبت الحقيقة السياسية التي عرضها رئيس المحكمة دايفيد راي بالتفصيل المملّ. ثمّة فارق تأسيسي بين الحقيقة، كحقيقة سياسية ماثلة أمام الرأي العام، وبين القدرة على إثباتها تقنياً عبر أدلة لا يرقى اليها الشكّ.
هذا ليس “ليّاً” لعنق الحقيقة أو تذاكياً ومكابرة على حكم انتظره اللبنانيون 15 سنة، وناضلت من أجله مجموعة سياسية تكبّدت عدداً من الاغتيالات الأخرى في سياق الضغط عليها للتراجع عن خيار المحكمة. إنه مجدّداً فارق تأسيسي بين ما هو حقيقة سياسية ساطعة وبين ما هو دليل تقني لم تنجح المحكمة في الحصول عليه لبرهنة هذه الحقيقة. هي التي اعتمدت أعلى معايير العدالة في العالم، والتي تصل في بعضها إلى حدود مطالبة القاتل بوصولات عن الجريمة!

قال رئيس المحكمة: “تعلن غرفة الدرجة الأولى عيّاش مذنباً بما لا يرقى إليه الشكّ، بوصفه مشاركاً في تنفيذ القتل المتعمّد لرفيق الحريري. عيّاش مذنب بارتكاب عمل إرهابي عبر أداة متفجّرة، وقتل رفيق الحريري عمداً. أما حسن حبيب مرعي، وحسين حسن عنيسي، وأسد حسن صبرا، فغير مذنبين في ما يتعلّق بجميع التهم المسندة إليهم”.

وعيّاش هذا، من قادة حزب الله الأمنيين والعسكرين، واحتفلت به قريته بعد إدانته باعتباره ركناً مقاوماً مكيناً. أما حزب الله، فمجموعة شديدة التنظيم ومتماسكة الهرمية، ما يعني أنّ تورّط مسؤول واحد منها في جريمة اغتيال رفيق الحريري، هو بالمعنى السياسي للكلمة، إعلان تورّط لكامل حزب الله. فالحزب القادر على ضبط ردود فعل شارعه في الصغيرة والكبيرة، لا يترك لمراقبيه مجالاً للشك في قدرته الهائلة على ضبط ماكينته الحزبية والأمنية والعسكرية، بما لا يدع مجالًا لاجتهادات، خاصة بحجم الاجتهاد باغتيال رفيق الحريري.

ما الذي أثبته الحكم:

أ- أثبت أنّ المحكمة محترفة وغير مسيّسة، ولا تحكم إلا وفق أدلّة لا يرقى إليها الشكّ.

ب- أدان قائداً عسكرياً رفيع المستوى وعضواً في ميليشيا حزب الله. ما يعنيه ذلك أنّ القاتل أو مجموعة القتل لا بدّ وأنّهم موثوقون من حزب الله، بحيث إنّ رقابة الحريري مثبتة خلال لقاءاته مع حسن نصرالله. فمن لديه القدرة للوصول إلى العمق الأمني لحزب الله لمراقبة الحريري خارج الدائرة الأمنية الموثوقة للحزب؟!!

ج- أكّد بشكل محدّد وبكلمات كثيرة أنّ الجريمة جريمة سياسية تتعلق بموقف الحريري السياسي، وبالتهويل الذي تعرّض له في الأشهر الاخيرة. أما وأنّ العملية قد استمرّ التحضير لها 4 أشهر، فهذا مؤشر أنّ قرار الاغتيال اتّخذ بعد صدور القرار الأممي 1559 والاجتماع الثالث لـ”لقاء البريستول” بمشاركة ممثلين عن الحريري، وبعد اللقاء الأخير بين الحريري ووزير خارجية الاسد وليد المعلم، الذي سجّل ونشر، وجزء غير بسيط من مضمونه متاح للمتلقّين على موقع “يوتيوب”.

د- أوضح بما لا يدع مجالاً للشك أن الجريمة نفذها من يملك طاقة تنظيمية كبيرة وهي ليست عمل فرد أو مجموعة أفراد. ليس أدلّ على ذلك من تأكيد المحكمة على العبث الذي لحق بساحة الجريمة، والجهود المبذولة من قبل أفراد المجموعة، وبالاتصال بمصطفى بدر الدين، لتجنيد أبو عدس ثم الترويج له ولشريطه الوهمي على الرغم من الجزم بأنّه ليس الانتحاري الذي فجّر نفسه بالموكب. لم تقتنع المحكمة بالأدلّة لكنّ أحدًا لم ينفِ أنّ هواتف مجموعة القتل تقود إلى الاستنتاج حول دور أصحابها في اختراع أبو عدس!

أما لناحية السلاح المستخدم في الجريمة، فقد أكدت المحكمة أنّ المسؤولين عن الاعتداء كان بإمكانهم الحصول على “متفجّرات عسكرية”!

تجزم هذه الخلاصات، وهي في خلفيات قراءة حيثيات الحكم، أنّ حزب الله قتل رفيق الحريري. بهذه البساطة وبهذا الوضوح الفجّ.

كلّ كلام آخر هو من باب التذاكي لا أكثر ولا أقل. ومن باب الاستثمار في دقة ورصانة المحكمة بالتزامن مع رفضها وإدانتها، وهذا موقف عجيب غريب! فمن احتفل أمس الأوّل ببراءة ثلاثة من عصابة القتل، هو نفسه من علّق لافتة تحتفل بالقاتل المدان سليم عياش!

فبماذا يحتفل المحتفلون؟ بفشل المحكمة – المؤامرة التي صدعوا رؤوس اللبنانيين بها؟ هذه شهادة ليحتفل بها “أهل المحكمة” لا فريق القتلة وحزبهم.

أعود إلى الفارق بين الحقيقة السياسية وبين القصور التقني للأدلة. ضعف بعض الأدلّة لا يعني، في ضوء الرواية السياسية المتماسكة التي قدّمتها المحكمة، حول الاغتيال وظروفه وسياقاته والمستفيدين منه، أنّ البراءة التقنية هي براءة سياسية.

لتسهيل الأمر، تنبغي العودة إلى سيرة آل كابون، أشهر قادة عالم الجريمة في الولايات المتحدة في عشرينات وثلاثينات القرن العشرين. ناور آل كابون القضاء والمحاكمات وجلسات الاستماع على الرغم من كونه المطلوب رقم واحد على لوائح مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي والمجرم الذي لا شكّ في حدود إجرامه. نجا آل كابون من عشرات المحاولات لسجنه والخلاص من ممارساته إلى أن وقع في فخّ قضية تهرّب ضريبي قادته إلى السجن. لم يسجن بسبب جرائمه المعروفة للجميع، التي كانت إما تعوزها أدلّة لا يرقى إليها الشكّ، أو نقصتها شجاعة جهازي القضاء والشرطة اللذين أرهبهما أو اشترى ولاءهما آل كابون.

لم يلغِ غياب الأدلة التقنية الرواية السياسية الجرمية لآل كابون، ولا يلغي غيابها لإثبات مسؤولية قيادة حزب الله عن جريمة اغتيال الحريري، وأنّ الحزب مدان بالقتل لا أكثر ولا أقلّ.. ووفق هذه الصفة يجب التعامل معه اليوم، وتنظيم طلاق سياسي، اجتماعي شامل، لا يترك مجالًا لزجليات السلم الاهلي والعيش المشترك وغيرها من التعابير التي سمعناها والتي تفقد نبل معانيها حين لا تكون إلا ذريعة للمزيد من الخضوع والتطبع مع الجريمة والمجرمين.

آل كابون بات العدوّ الأوّل في المجتمع الأميركي بعد الجريمة المروعة التي قتل فيها سبعة من كبار رجال العصابات المنافسين له، وسميت حينها “مجزرة يوم الفالنتاين”.. مجموعة من حزب الله، قادها سليم عياش قتلت رفيق الحريري يوم الفالنتاين أيضاً!

يا للمفارقة.

نديم قطيش – أساس ميديا