في يوميات الشقاء اللبناني… «ما في نوم بعد اليوم»

«ليس شحّ المال»… المشكلة الوحيدة التي يعانيها اللبناني هذه الأيام، بل الأزمة المالية هي النقطة التي جعلت الكوب يفيض وينسكب مرارةً على تفاصيل حياته اليومية. فالمعاناة واحدة وإن بدرجات متفاوتة بين الميسورين والمعدمين، تبدأ بغلاء الأسعار الجنوني وتمرّ بالانقطاع المتواصل للتيار الكهربائي ولا تنتهي عند «كورونا» ومساره «المتوحّش»، ولا الشائعات المحبطة التي تتناهى إلى مسامعه في كل لحظة متوعّدة إياه بمستقبله ومصيره.
اللبناني اليوم يعيش على ترددات أعلى درجات التوتر، ويرزح تحت ثقل الخيبات والخوف من المجهول. ويوميات اللبنانيين كلهم تتشابه مهما اختلفوا فيما بينهم في السياسة والمعتقدات أو تفاوتوا في مستواهم المعيشي والمادي.

ما في نوم بعد اليوم
يصعب على اللبناني في ليالي الصيف الحارقة أن ينال ليلة هانئة من النوم تعوّضه عما يمرّ به خلال يومه من ضغوط وتعصيب. فإذا توافرتْ نعمة التيار الكهربائي لساعاتٍ معدودة ليحظى ببرودة المكيّف فإن النعمة لا تدوم، فيستيقظ من عزّ النوم رغماً عن أنفه ليحول «ديجونكتور» البيت نحو المولد ويسارع الى فصْل الثلاجة والأجهزة الكهربائية الشغالة في البيت عن الكهرباء حتى لا يتخطى ما يسمح به اشتراك المولد من طاقة. وحين يعود إلى النوم منغّصاً غير قادر على أن يغفو غفوة هنيئة بسبب الحرّ الناجم عن توقف المكيّف، يفاجأ بهجمات البرغش الذي استغلّ النوافذ المفتوحة ليلسع وجهه وأنحاء جسمه بلسعات مؤلمة تطيّر النوم من عيونه. وليس هذا بسيناريو عابر بل هو روتين مُرْهِق يتكرّر كل ليلة.
يستيقظ المواطن اللبناني صباحاً مُتْعَباً متعكّر المزاج لأنه لم يَنَلْ قسطه من الراحة فيجاهد ليبدأ يومه بطريقة إيجابية. ولكن ما أن يختار أن يفتح الصنبور مُحاوِلاً محوَ بعضٍ من آثار الليلة العصيبة، «تصعقه» المفاجأة غير المفاجئة بأن المياه جفّت من الخزان بفعل التقنين المُضاعف نتيجة أزمة الكهرباء، فيتبخّر «حلم» الاستحمام بانتظار «الخطة ب» أي مياه «السيترن» التي يتكبّد للحصول عليها فاتورة ثانية، هذا إذا توافرتْ في كل وقت.
في «الوقت المستقطع»، يفْتح شاشة هاتفه أو تلفزيونه فيتكرّر مشهد اعتصام من هنا وقطْع طريق من هناك وتجمّع في هذه الساحة أو تظاهرة في تلك تمنعه من الوصول إلى مقرّ عمله. لا بأس إنهم يتظاهرون من أجل لقمة العيش، يعضّ على الجرح ويحاول بعد أن «ينقذه» سيترن الحيّ، أن يجد طريقاً آخَر للوصول الى العمل، لكن حين يبحث عن إحدى المحطات القريبة ليملأ خزان سيارته بالوقود، يتفاجأ برتل من السيارات ينتظر دوره للحصول على المحروقات، لأن الجميع قد سمعوا أن ثمة أزمة بنزين تلوح في الأفق، ومستوردو المادة يهددون بالإضراب ومنْعها عن الناس.
انقطاع المواد الاستهلاكية الأساسية وحجْبها عن الناس، صار هاجساً يخيف اللبناني ويدفعه للجري اليومي وراء المواد المهدَّدة بالانقطاع. يسمع أن المازوت صار عملة نادرة فيسارع لا إلى حجز الكمية التي يستطيع الحصول عليها لاتقاء شتاء آتٍ ينذر بالويل، بل الى شراء كميات من أكياس الخبز لأن المادتين مترابطتان، إن انقطعت إحداها شحّ وجود الأخرى. والخبز الذي هو لقمة الفقراء وأساس عيش كل الشعوب يكاد يخضع لبورصة يومية تتأثر بالتجاذبات بين المسؤولين وأصحاب الأفران القابضين على خناق الناس في لقمة عيشهم، ولذا ترى اللبناني يملأ ثلاجة منزله بكدسات من ربطات الخبز خوفاً من فقدانها أو ارتفاع سعرها، كما يملأ خزائنه حتى التخمة بأكياس الحنطة والحبوب والمعلّبات التي بات سعرها أغلى من الذهب.

خدمات منتهية الصلاحية
والخوف من إنقطاع المواد الأساسية أو ارتفاع أسعارها الجنوني مثل اللحوم والمواد المستوردة على اختلافها، وحتى الخضار والحبوب، لا توازيه إلا الخشية من انقطاع خدمات حيوية (إضافة الى الكهرباء والماء) مثل الإنترنت والاتصالات. وهذا ليس وهماً يتعايش معه المواطن بل واقع يعيشه في ظل التهويل المتواصل من قبل الموالين والمعارضين على حد سواء بمشاكل كبرى تواجه هذه القطاعات وقد تعوق استمرار خدماتها، تارةً ربْطاً بعدم توافر المازوت وطوراً بفعل مشاكل تمويلية أو إدارية.
لكن أكثر ما يثير غضب المواطن اللبناني ليس فقط توقّف الخدمات أو الخشية من ذلك، بل اضطراره لدفع المستحقات اليومية والشهرية والفصلية على خدمات غير متوافرة أو انتهت مدة صلاحية تشغيلها. ويكفي ذكر بعضها مثل عدّادات الوقوف على الطرق، صيانة الطرق حتى لا تبقى أفخاخاً مميتة للسيارات، وإصلاح إشارات المرور على التقاطعات التي رَفعتْ في بيروت مثلاً ولأيام «الراية البيضاء» قبل أن تبدأ بالعودة إلى الخدمة تباعاً، أعمال التنظيف وجمْع النفايات ومعالجتها منْعاً لتَكَدُّسها في الأحياء والطرق، صيانة الأحراج والغابات لمنْع اندلاع «حرائق مفترسة» فيها كما حصل الصيف الماضي… والكثير الكثير غيرها من الخدمات البديهية التي تُعتبر حقاً للمواطن يدفع ثمنها ولا ينال منها إلا نتفاً.

البحث عن الدولار لا يزال جارياً
ويبقى الهمّ الأكبر لكل لبناني، مقيماً كان أو مغترباً، الحصول على أمواله أو ما تبقى منها من المصارف بعد الهيركات المقنّع الذي فرضتْه هذه الأخيرة على أموال المودعين بغير وجه قانوني. فالمواطن الذي أفنى عمره ليجمع مبلغاً يحفظ له ولعائلته حياة كريمة ويمكّنه من تعليم أولاده وتأمين طبابتهم ويقيه شرّ الذل في آخِرته، وَجَدَ نفسه فجأة ضائعاً محتاراً ليس قادراً على سحب أمواله نقداً من المصرف بالعملة الصعبة (الدولار) التي أودعها فيه، مضطراً للتقيّد بمبلغ أسبوعي يتم تحويله إلى الليرة اللبنانية (على سعر نحو 3850 ليرة فيما يناهز سعر الدولار في السوق السوداء 8 آلاف ليرة) يمنّ به المصرف عليه ولا يعطيه أكثر منه مهما حاول أو مهما كان حجم رصيده في المصرف، وذلك بفعل أزمة السيولة الحادة وشحّ الدولار التي انفجرت قبل أشهر واستتبعت فرْض المصارف قيوداً مشدّدة على الحصول على الأموال وخصوصاً بالدولار ما أثار غضب المودعين الذين وجدوا أنفسهم عاجزين عن سحْب «القرش الأبيض في اليوم الأسود» بعد تحديد سقوفٍ تضاءلت تدريجاً إلى أن تَكرَّس تَحوُّل ودائعهم بالعملة الخضراء إلى lollar، وهو المصطلح الذي بات الاسم الحَركي للدولارات التي لم تعُد متوافرة إلا نظرياً ودفترياً.
وهنا تساوى اللبناني المتوسط الحال مع اللبناني الميسور في الوقوف صباحاً عند باب المصرف لاستجداء المبلغ الأسبوعي الذي يحقّ له. ومَن أراد القيام بتحويلات بالدولار الى الخارج لأبنائه الذي يدرسون في بلدٍ غربي، أو للقيام باستيراد المواد التي طالما تاجر بها، عليه أن يصرف يومه بين الدوائر الرسمية ليستحصل على الأوراق القانونية المختومة التي تثبت أن له ولداً في الخارج أو مورداً يحتاج الى عملة صعبة لتسهيل تجارته. ومَن لا يستطيع لذلك سبيلاً يقف ساعات أمام باب الصرافين الشرعيين أو في زواريب صرّافي السوق السوداء للحصول على الدولار بأسعار خيالية تفوق قدرته الشرائية بأضعاف.
هذا الشحّ المالي دَفَعَ بالمواطن اللبناني الى البحث عن سبل تساعده في تحصيل بعض المال لتأمين معيشته فوجد الحلّ في بيع ما يملكه من مجوهرات ذهبية في ظل «إعلانات» على الهواتف تصله وتُغْريه بدولاراتٍ طازجة وبأسعار «تستدرجه» مستفيدة من ارتفاع قيمة المعدن الأصفر عالمياً. وهكذا بات شائعاً أن يستعير مواطن أساور زوجته وعقودها ويمدّ يده حتى الى شبكة خطوبتهما ليحملها الى تاجر ذهب صغير يشتريها منه بالدولار نقداً، ليعود (التاجر) فيبيعها الى تاجر أكبر ويربح منه بضعة دولارات لكل غرام من الذهب حتى يقوم هذا الأخير بتسييلها وصبّها سبائك يحملها الى تجار الذهب في أوروبا ويبيعها نقداً بأسعار مرتفعة بالعملة الصعبة.
وإذا كان البعض قد وجدوا مصدر ربح في هذه التجارة المشروعة فإن كثراً باتوا يلجؤون الى الغش والتزييف لتحصيل المال. وما حصل أخيراً من اكتشاف أطنان من مواد غذائية فاسدة في المستودعات ولحوم منتهية الصلاحية ما هو إلا دليل على ما بات اللبناني يعانيه في يومه، لا نتيجة تقاعُس مسؤوليه فحسب بل بفعل جشع بعض إخوانه. وكأن أزمة الغلاء الفاحش لم تعد تكفيه بل أتت أزمة المواد الفاسدة لتجعله يمضي يومه في السوبرماركات يبحث عن الماركات التي لم يرِد ذكرها ضمن لائحة المواد الفاسدة حتى يتأكد من أنه يختار لعائلته ما يعود عليها بالفائدة الغذائية لا بالضرّر. وإذا نجح في بحثه هذا، وَجَدَ أسعار المواد الموثوقة تفوق قدرته الشرائية فيبحث من جديد عن مواد تحظى بالدعم الذي أقرّته وزارة الاقتصاد ليتمكن من شرائها بأسعار مقبولة، وإن لم تكن ما يبغيه أساساً، هذا إذا كانت أصلاً وصلت إلى السوق اللبنانية، بعدما انفجرتْ فضيحةُ قيام تجار بمعاودة تصدير السلع التي جرى استيرادها بالدولار المدعوم فيحصلون مقابلها على دولار طازج يستفيدون منه بعد بيعه في السوق السوداء.
… بين المصرف والصرّاف، وبين السوبر ماركت وتقاطعات الطرق ومحطات الانتظار… يمْضي اللبناني يومه بانتظار الفرج سائلاً الله أن يكون قريباً يأتيه قبل الموجة الثانية من فيروس «كورونا» الذي بات يتقدّم دوره في الصف بين الكوارث المنهمرة على رأس المواطن اللبناني.