100 سنة حروباً: أعلنوا لبنان دولة مُحايدة

قليلة هي الحروب “الأهليّة” في الدول المُنقسمة طائفياً، التي لا تكون نِتاج صراع على السياسة الخارجيّة للدولة، أو تعبيراً عن رغبة أحد المكوّنات بالإنفصال والإنتماء الى دولة أخرى. في شمال ايرلندا، تقاتل البروتستانت والكاثوليك لمدّة ثلاثين عاماً على تبعية الجزء المُنفصل عن جزيرة ايرلندا (المُنفصلة بدورها عن المملكة المتّحدة)، الى أن اتّفقوا على صيغة حياديّة في العلاقات الخارجيّة، تضمن نوعاً من التبعيّة المُشتركة للدولتين، مع حفظ حقّ الأغلبيّة بالتصويت لنقل السيادة الرسميّة من بريطانيا الى ايرلندا. في البوسنة، تقاتل الأرثوذكس والكاثوليك والمسلمون على تبعيّة الدولة المُنفصلة عن يوغوسلافيا، فسعى الصرب الى البقاء (ومن ثم الإنفصال)، وسعى الكروات الى الإنشقاق والإنضمام الى كرواتيا (المُنفصلة حديثاً هي أيضا)، فيما جهد المسلمون للحِفاظ على وحدة الدولة ذات الأغلبية المسلمة. انتهت الحرب بالتوافق على صيغة حياد، بضمانة رسميّة من صربيا وكرواتيا، تسمح للأقليّتين بالحفاظ على “علاقات مُميّزة” مع دولهم الأمّ، اللتين تخلّيتا عن مشاريعهما العقائدية والتوسّعية، مع سعيهما للإنضمام الى الإتّحاد الاوروبي. منذ أكثر من عقدين، تعيش شمال ايرلندا والبوسنة حالة من الإستقرار والسلام الدائمين، بالرغم من أنّ المجموعات الطائفيّة في الدولتين لا تزال مُعادية لبعضها البعض، بشكل شبه تام. تؤكّد هذه الوقائع التاريخيّة ما قاله الخبير الأبرز في شؤون الدول التعدّديّة ارند ليجبهارت عن أنّ العامل الأبرز في نجاح الدول الصغيرة التي حافظت على استقرارها – أي النمسا وسويسرا وبلجيكا وهولندا – كان اعتمادها الحياد، بحيث أنّ إبعاد الضغوط الخارجيّة عن النظام سمح بحفظ توازنه.

لا توجد دولة من بين الدول المُنقسمة طائفياً في العالم، يشكّل الجزء المتعلّق بالسياسة الخارجيّة المشكلة الأساس، كما هي الحال في لبنان، بحيث أصبح لبنان “مضرب مثل” في الكتابات الأكاديميّة عن دولة تُحسن طوائفها إدارة تقاسم السلطة على المستوى الداخلي، لكنّها تنجرّ الى التقاتل الدموي، عند الخلاف على السياسة الخارجيّة والدفاعيّة للبنان. وقد أظهرت مجموعة من استطلاعات الرأي، أجراها الباحث الألماني ثيودور هنف ونشرها في كتابه “التعايش في زمن الحرب في لبنان” أنّ اللبنانيين لديهم رغبة استثنائيّة (بمعيار الدول المُنقسمة طائفياً) بالعيش المشترك، حيث لا نزعات إنفصاليّة أو تقسيميّة جديّة، تأخذ طابع أيديولوجيا عميقاً. وقد أُجريت مقارنة بين هذه الدراسة ودراسات مُشابهة أُجريت في شمال ايرلندا (حيث يُطالب الحزب الأكبر في البرلمان باستفتاء للإنفصال) والبوسنة (حيث الكروات والصرب يتلون النشيد الوطني لبلدهم الأم) فتبيّن ان الصراع في لبنان هو أساساً على السياسة الخارجيّة، فيما “التشاركية السياسيّة” (على علّاتها) كفيلة بمنع تحوّل أي مشاريع داخليّة الى بذور حرب أهليّة.

لم يتقاتل اللبنانيون يوماً منذ العام 1920 الا دفاعاً عن رؤيتهم لسياسة البلد الخارجيّة. في العام 1958، تقاتل مؤيّدو الرئيس المصري جمال عبد الناصر، قائد مشروع الوحدة العربيّة آنذاك، مع مناصري “حلف بغداد” المدعوم من الغرب، ما خلص الى حرب أهليّة مصغّرة، انتهت بالعودة الى التوازن في السياسة الخارجيّة اللبنانيّة. وما كان إصرار الرئيس فؤاد شهاب على لقاء الزعيم التاريخي عبد الناصر في خيمة على الحدود اللبنانيّة – السورية الا تعبيراً رمزياً حاسماً عن هذا التوازن. قبل هذه “الحرب” وبعدها، عاش لبنان 32 عاماً من الإستقرار والإزدهار، بحيث وُصف عام 1969 بـ”النموذج الأصلح لإدارة الدول المتنوّعة في العالم الثالث”، حسب مجموعة من الكتّاب الغربيين جمع مقالاتهم البروفسور ليونارد بايندر في كتابه “السياسة في لبنان”. كان سرّ هذا النجاح الإستثنائي هو الاتّفاق الضمني في الميثاق الوطني على مبدأ حياد لبنان – لا شرق ولا غرب – والذي ترجم فعلياً في الحروب العربيّة – الاسرائيليّة عامي 1967 و 1973، والتي لم تدخل فيها إسرائيل الجنوب اللبناني بالرغم من هزيمتها لكلّ الجيوش العربيّة مُجتمعة (أين كانت الأطماع الصهيونيّة في مياهنا آنذاك؟). لم يكن هذا الإتّفاق التاريخي على الحياد جديداً على العقل اللبناني، بل إنّ مجلس إدارة مُتصرّفيّة جبل لبنان كان قد طالب في 10 تمّوز 1920 بحياد لبنان السياسي، بحيث “لا يحارب ولا يحارب ويكون بعزل عن كلّ تدخّل حربي”!

في العام، ١٩٧٥ تقاتل اللبنانيون مُجدّداً على سياسة لبنان الخارجيّة تجاه القضيّة الفلسطينية، وكان الإنقسام بين من أراد لبنان دولة مواجهة، ومن أراده دولة مُساندة. بالرغم من شعور المسلمين بالمظلومية نتيجة ما عرف بـ”المارونيّة السياسيّة”، الا أنّ ذلك لم يكن سبباً للتقاتل، لأنّه لو كان كذلك، لانتهت الحرب في العام 1976 مع إعلان الرئيس فرنجيّة الوثيقة الدستوريّة، التي أعطت المسلمين ما أعطاه لهم الطائف بعد 15عاماً من القتال العبثيّ. استمرّ القتال الى أن توافق اللبنانيون على وثيقة الوِفاق الوطني في الطائف، واتي أعادت فرض توازن بين هويّة لبنان العربية ونهائية كيانه. ولكنّ المعطيات الإستراتيجيّة فرضت هيمنة سورية استبدلت الحياد بـ”وِحدة المسار والمصير”، ما ادّى الى حروب بين “حزب الله” واسرائيل في العام 1993 و1996 ما كان لها مُبّرر أو ضرورة لو لم يمنع لبنان من عقد اتّفاق مع الولايات المتّحدة، تنسحب من خلاله إسرائيل مُقابل نشر الجيش اللبناني في الجنوب. صحيح ما قاله العماد عون آنذاك، وهو أنّ “حزب الله” لم يُحرّر الجنوب، بل أخّر تحريره 14عاماً.

خرج الجيش السوري وبقي “حزب الله” وصيّاً إيرانياً على لبنان. استبدل مبدأ الحياد بحرب تمّوز، ومن ثم بالحرب الأهليّة المُصغّرة الثانية أيّار 2008، ومن ثم بمشاركة “حزب الله” في حروب سوريا واليمن والعراق. “حزب الله” الذي يُدخل نفسه بحروب الإقليم نفسه الذي يُسيطر على الدولة اللبنانيّة – من رئاسة الجمهوريّة الى الحكومة ورئيسها ومجلس النوّاب ورئيسه – ما يجعل من الدولة اللبنانية دولة مُخالفة لمبدأ الحياد، ويُحتّم فرض قرار دولي – عربي بمقاطعتها، مع كل ما يستتبع ذلك من انهيار اقتصادي وخراب سياسي. دولة لبنان التي “لا تحارب ولا تحارب” أصبحت الدولة التي تحارب في كلّ المنطقة. الدولة التي تعاهد أبناؤها على مبدأ “لا شرق ولا غرب”، يتباهى مسؤولوها بـ”التوجّه شرقاً”. الدولة التي يحترم العالم حيادها، ويتعامل مع جميع الدول على أساس الإنفتاح والتوازن، يقاطعها العالم على اعتبارها دولة محور. والدولة التي كانت توصف بـ”سويسرا الشرق” أصبح وصفها بـ”فنزويلا الشرق”. ولكن لا خلاص لأزماتنا التي تتجدّد كل عقدين الا باعتماد الحياد الدائم والمسلّح والإيجابي على النموذج السويسري.

طرحت سويسرا تاريخياً وما زالت، النموذج الأنجح لاعتماد مبدأ الحياد في السياسة الخارجيّة. أُقرّ مبدأ الحياد في سويسرا في معاهدة باريس عام 1815، التي توافقت فيها دول أوروبا على حياد الدولة الصغيرة والمُنقسمة. لم تدخل سويسرا حرباً منذ ذلك العام. يُقدّس المواطنون السويسريّون مبدأ الحياد، وهو مبدأ دستوري لا خِلاف عليه. فالدولة المُنقسمة دينياً (36% من الكاثوليك، و25% من البروتستانت) ولغوياً (70% المان، 23% فرنسيون و8% ايطاليون) استطاعت حماية نفسها من الإقتتال الداخلي والإجتياح الخارجي بالرغم من حربين عالميتين تواجهت فيها دولهم الأم، أي المانيا وفرنسا. يروي جورج شوفالاز، عضو المجلس الإتحادي السويسري السابق في كتابه “تحدّي الحياد” كيف أنّ هتلر كان يحتقر السويسريين الألمان من كثرة تمسّكهم بوطنيتهم، وكيف استطاعت القيادات السويسرية الحفاظ على العلاقات الإقتصاديّة بالمحورين المُتقاتلين، صوناً لمبدأ الحياد. في عزّ قصف لندن، تفهّم البريطانيون التعاون المصرفي السويسري مع هتلر، احتراماً لحيادها، وقال تشرشل عن سويسرا انّها دولة “حرّة، وديموقراطيّة، ومعنا فكرياً، فماذا نريد منها”؟

كما إصرار السويسريين على مبدأ الحياد المسلّح تجلّى بإسقاطهم طائرات المانية وأميركية خرقت المجال الجوّي السويسري، كما في استعداد الجيش (مُعظم ضبّاطه المان) لِقتال اجتياح الماني مُحتمل عبر جبال الألب، تبيّن لاحقاً أنّ خطّة قد وضعت له، ولكنّه لم ينفّذ لكثرة الخسائر المُتوقّعة. كلّ هذا لا يعني أن لا حساسيات طائفيّة في سويسرا، تؤدّي بين الحين والآخر الى أعمال عنفية: في العام 1993، فجّرت مجموعة إنفصاليّة داعمة لضمّ أجزاء من كانتون برن (ذات الأغلبيّة الالمانيّة) الى كانتون جورا (ذات الأغلبيّة الفرنسيّة) قنبلة في جوار البرلمان، أودت بحياة مواطن سويسري برغم هذه الإشكاليّات الداخليّة، الا انّ الحياد عنوان اجماع في سويسرا (74% مؤيّدون له بقوّة)، وهو ما سمح لها بـ”التفرّج على أوروبا تحترق بطُمأنينة وهدوء ورفاهيّة”، على حدّ قول شوفالاز. بعد انتهاء الحرب الباردة، طوّرت سويسرا تدريجياً مفهومها للحياد بالتوافق، فهي الدولة التي رفضت دخول الأمم المتّحدة حتّى العام 1992، ولكنّها اليوم تعتمد صيغة الحياد الإيجابي والفاعل، فتُشارك في مهام حفظ سلام، وفي محكمة الجنايات الدوليّة، وحتّى في عقوبات اقتصادية على دول كالعراق ويوغوسلافيا سابقاً، وذلك تماشياً مع قرارات الأمم المتّحدة.

لا قيمة فعليّة لكلّ ما يدّعى من حجج واهية مُخالفة لمبدأ الحياد، خصوصاً في الموضوع الإسرائيلي – اللبناني، أو في ما خصّ أحقيّة القضيّة الفلسطينيّة. فالدولة المُحايدة وِفق القانون الدولي – المُرتكز على معاهدتي لاهاي 1899 و1907، اعلان باريس 1856، ومعاهدة واشنطن 1871 – لها حقوق وواجبات. وأول حقوقها الدفاع عن أرضها بوجه أيّ عدوان. ومن حقّ الدولة أيضاً التعبير عن رأيها في القضايا الدوليّة، كما فعلت سويسرا عندما انتقدت بشدّة إدارة ترامب من محكمة الجنايات. كما انّها ليست مُلزمة تعديل “الوضع الطبيعي” (courant normal) بتعاملها مع إسرائيل، المتجسّد بالهدنة والمقاطعة. لكنّ المطلوب هو وضع لبنان خارج دائرة التأثّر بصراعات الشرق الأوسط، عبر تعديل دستوري يُدخل الحياد الى مقدّمة الدستور، تليه معاهدة تشترك فيها الدول الإقليميّة والدولية، وتعترف من خلالها بحياد لبنان، وأخيراً إعلان دولي في الأمم المتّحدة يُقرّ بهذا الحياد، كما حصل مع تركمانستان في العام 1995. خرقت دعوة البطريرك الراعي الجمود الفكري الحاصل في مقاربة الأزمة اللبنانيّة، وقد أعاد البوصلة الى مكانها الطبيعي من خلال خطوة ضرورية حكيمة، وتُعبّر عن بُعد نظر، كما قال عنها الدكتور رضوان السيّد. فمن يجرؤ – خصوصاً من بين المسلمين- على الخروج من قفص التاريخ، ومُلاقاة هذه الدعوة؟

صالح المشنوق-نداء الوطن